حرب أكتوبر.. أبطال وبطولات لا تنسى (حسن خلف)
شمال سيناء - سارة عرفة وسامي مجدي:
أربعون عاما مضت على حرب السادس من أكتوبر المجيدة التي أنجز فيها الجيش المصري ملحمة عسكرية تاريخية بكل المقاييس وسطر العديد من رجال مصر المخلصين أسماءهم بأحرف من نور في تاريخ الكرامة المصرية، وتبقى بطولاتهم التي شهد بها العدو قبل الصديق والبعيد قبل القريب، باقية تُحكى جيلًا بعد جيلٍ.. أحد هؤلاء الرجال الحاج حسن خلف، كبير مجاهدي سيناء الآبية، والتي كان للمئات من أبناءها قصصا وحكايات بعضها لم يرو حتى وقتنا هذا بل إنه يحتاج إلى مجلداتٍ ومجلداتٍ لاستكمال بطولاتهم التي تنم عن انتماءٍ وحبٍ شديدٍ للوطن.
ذهبنا إليه في بيته الكائن في قرية الجورة الواقعة بمدينة الشيخ زويد بشمال سيناء التي تشهد هذه الأيام حملة أمنية وعسكرية كبيرة لتطهير هذه البقعة العزيزة على قلب كل مصري من ''التكفيريين'' والجماعات المسلحة الخارجة عن القانون بعد ''أن صبر الجيش كثيرا على هؤلاء''، كما قال لنا.
أردنا أن نسمع منه عنه - عن بطولاته - إلا أن كلامه عن نفسه وعن بطولاته التي شهد بها الإسرائيليون أنفسهم، كان شحيحا. حكى لنا عن بداية اشتراك أبناء سيناء في حرب الاستنزاف في أعقاب نكسة 1967 التي وصفها بـ''الحرب المهزلة''، وصولا إلى حرب 1973 التي كللت بنصر عسكري كبير شهد له عتاة الحروب في العالم من أقصاه إلى أقصاه.
عندما سألناه عن حرب أكتوبر بدأ حديثه بمقولة عن الموسيقى وتعريفها ''هي فضل من الكلام عجز الإنسان عن التعبير عنه باللسان فعبر عنه بالألحان''، واتبع ''فصدقني حرب أكتوبر فضل من الكلام لا يمكنا التعبير عنه باللسان حقيقة، لكني سأحاول تقريب المشهد''.
اعتدل في جلسته في ''المقعدة'' أو ما يسميه أهل الوادي ''المندرة'' وحكى قصة وقعت في يوم 4 مارس سنة 1974 حينما ''قرر قادتنا الكبار القيام بزيارة لمقبرة الشهداء بالقنطرة شرق. ذهبنا ووجدنا على كل قبر مربع خشبي مدون عليه الرتبة والاسم – ملازم فلان الفلاني، ملازم أول فلان الفلاني، نقيب فلان الفلاني، رائد فلان الفلاني، عقيد فلان الفلاني – أخذنا نحسب عدد الضباط الذين استشهدوا في العمليات مقابل عدد الجنود فوجدنا النسبة 4 ضباط مقابل جندي."
''يا هل ترى ما الذي جعل النسبة معكوسة؟''، سأل الحاج حسن نفسه ورد بالقول ''إنه أمر بسيط لأن الأمر الذي أصدره الضباط للجنود ساعة العبور كان: 'اتبعونا'؛ حيث كان الضباط في مقدمة الصفوف على خط المواجهة مباشرة''.
''وقفنا نتذكر، بالأمس كنا غرب قناة السويس ننظر إلى سيناء من خلال المناظير والآن نقف على أرض سيناء ولا آثر للعدو (الإسرائيلي)، اللهم إلا هذه الأجساد المباركة التي يواريها بعض التراب. استشعرنا وقتها أروحهم تحلق فوق رؤوسنا وتقول لنا لقد سلمناكم الأمانة فلا تضيعوها''، هكذا شرد الحاج حسن بذهنه مستعيدا تلك اللحظة التي أعادت للجندي المصري كرامته وثقته بنفسه بعد أن اهتزت دون أن يكون له ذنب في ذلك.
انتقل الحاج حسن إلى الحديث عن أبناء سيناء ودورهم في حرب الاستنزاف وصولا إلى نصر أكتوبر المجيد. "حينما قامت الحرب المهزلة سنة 1967 رأى أبناء سيناء بأعينهم كيف أن الجندي المصري ظلم ولم تتح له الفرصة لكي يخوض معركه حقيقيه،" هكذا قال.
وأضاف أن عددا كبيرا من أبناء سيناء هرعوا إلى وادي النيل، 850 شابا سيناويا، توجهو مباشرة إلى إدارة المخابرات الحربية بالقاهرة وقالوا ''نحن جاهزون لأي عمل يُطلب منا''.
''وُضع أمام أبناء سيناء ثلاث خيارات؛ الأول: جمع المعلومات عن العدو الإسرائيلي، والثاني: تصوير مواقع العدو في سيناء، والثالث: القيام بعمليات اعتراضية خلف خطوط العدو، وترك قادة القوات المسلحة لأبناء سيناء الحرية في اختيار أي عمل من هذه الأعمال الثلاث، ولم يُجبر أحد منهم على عمل لم يكن مقتنعا به''.
''جمع المعلومات''
خرجنا من كلام الحاج حسن بأنطباع أن الأعمال التي قام بها هذا القسم من أهم ما أداه أبناء سيناء للقوات المسلحة في حرب الاستنزاف والتحضير لحرب أكتوبر. يقول محدثنا ''هذا القسم تم تدريبه على استخدام أجهزة اللاسلكي والتي كان مداها يصل إلى 500 كيلومتر، وبعد أن أتموا تدريبهم حمل كل منهم جهازه على ظهره وعبر إلى سيناء وأدى مهمته على أكمل وجه''.
ضرب لنا الحاج حسن مثالا بأبرز رجال هذا القسم وهو المجاهد السيناوي المرحوم الحاج سليمان مغنم، ''هذا الرجل أبلغ القيادات المصرية في الثامن من أكتوبر سنة 1973 بأن العدو قام بتجميع لواء مدرع جنوب رفح ليستعد للانطلاق للجبهة''.
طلب القادة المصريون من ''مغنم'' أعداد الدبابات في اللواء وأعداد العربات نصف المجنزرة والخفيفة، وأن عليه مواكبة هذا اللواء خطوة بخطوة وتحديد النقطة التي يسير إليها اللواء الإسرائيلي في الجبهة، يقول الحاج حسن.
''بقى هذا البطل يسير بجانب اللواء بالصحراء وأبلغ قيادته أنه يسير على المحور الشمالي في اتجاه قطاع القنطرة''.
دائما ما يوثق الحاج حسن كلامه بروايات شهود عيان على الواقعة التي يرويها إن لم يكن هو قد عاصرها، وفي هذه المرة استعان بذاكرته ''الحديدية'' وتلى علينا بعضا من مذكرات الجنرال الإسرائيلي عساف ياجوري التي نشرتها إحدى الصحف القومية المصرية وقتها؛ حيث قال خلف:
وهنا اسمح لي أن أترك الجنرال الإسرائيلي عساف ياجوري قائد اللواء 195 مدرع، يقول: ''حينما دخلنا إلى قطاع القنطرة كانت أعيننا مشدودة نبحث عن المدرعات المصرية لتدميرها، لكننا فوجئنا بالجنود المصريين بزيهم الأصفر منهم من كان مختبأً في حفرة صغيرة ومنهم من اختبأ خلف شجيرة، وأخذوا يطلقون قذائفهم على مدرعاتنا، وفي الخمسة عشر دقيقه الأولى شعرت بأن اللواء ينهار، وأصيبت دبابتي وترجلت منها وإذا بي وجها لوجه مع جندي مصري يحمل قاذفا على كتفه ويصوب ناحيتي وإذا بضباط مصري صغير يقفز بسرعة البرق بيني وبين الجندي وأشار إليه أن يتوقف. كنت أود أن أقابل هذا الضابط بعد السلام لأسأله لماذا خاطرت بحياتك لأجلي؟''
رد الحاج حسن خلف الذي ذاق مرارة الآسر في سجون الاحتلال الإسرائيلي، على تساءل ياجوري، ''والجواب هنا أنه يعتقد بطهارة السلاح الذي لا يجب أن يطلق على أسير بعكس من كان يطلق النار على أسرى مصريين بدم بارد في جرب 67''.
ويضيف ياجوري: ''بينما نحن على هذا الحال أقبلت سيارة جيب مصرية يجلس بجانب السائق جنرال (لواء) مصري قوي البنية ضخم الجسم، وكان ملقيا بظهره على مسند المقعد، توقف أمامي وأشار إلي أن أقترب ولطمني بظهر يده على وجهي أحست معها بالدوار وتركني وانصرف كنت أود ان أقابله أيضا لكي أساله لماذا لطمتني؟''.
''وأنا أيضا أود مقابله ذلك الجنرال (المصري) ولكن لا لكي أساله ولكن لكي أقبل يده''، هكذا قال خلف.
كما تذكر خلف معنا ما قاله اللواء فؤاد نصار أحد مدراء المخابرات الحربية حين وقف في احتفال كبير حضره الرئيس الراحل السادات: ''لم تكن لدينا أقمارا اصطناعية ولكن كانت لدينا الأعين الصادقة لأبناء سيناء. لقد جعلوا المواقع الإسرائيلية كتابا مفتوحا أمام القوات المصرية، ولولا أبناء سيناء ما نجحت حرب أكتوبر''.
''وهم (أبناء سيناء) يردون عليه (اللواء نصار) شكرا لقد أنصفنا أنصفك الله''، قالها حسن خلف وفي حلقه ربما مرارة مما يردده قلة في بعض الأحيان عن أبناء سيناء.
مبارك و''جنود النخبة''
واقعة أخرى رواها خلف توضح دور أبناء سيناء في حرب أكتوبر كان بطلها الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي كان وقتها برتبة لواء يتولى قائد القوات الجوية. يقول خلف ''بعد قرار وقف إطلاق النار كان يوجد لنا خلف خطوط العدو عدد من جنود النخبة (المظلات والصاعقة)، كانت قد ألقت بهم الطائرات خلف الخطوط أثناء العمليات، وبعد قرار وقف أطلق النار طُلب من اللواء حسني مبارك طائرة هليكوبتر لانتشال هؤلاء الجنود وكان الرد الموثق لدى المخابرات الحربية أنه قال: بعد قرار وقف إطلاق النار لا أستطيع أن أُدخل طائرة''، وأردف قائلاً: ''يمكن أن تستعينوا بالبدو''.
''وهنا أبرقت المخابرات الحربية إلى رجالها في سيناء بأن يتصرفوا، وفعلا تم سحب هؤلاء الجنود للجبال وأخذوا يتنقلون بهم من جبلٍ لجبلٍ لمدة ستة أشهر بعيدا عن أعين العدو. وبعد فض الاشتباك الثاني عادوا بهم لمصر بكامل أسلحتهم سالمين غانمين وقابلهم السادات وكرمهم''.
ببعض الألم قال خلف ''مع ذلك نرى في بعض الأحيان أصواتا - قليلة والحمد لله - تخرج علينا لتجعل من أبناء سيناء ''نكرة'' لا محل لها من الأعراب. نقول لهم لقد مر التاريخ من هناك وسجل ما سجل ولكن مشكلتكم أنكم لا تقرءوا.. وصدق لقمان حين قال: يا بني إن حملك الصخور من إمكانها أهون من إفهام من لا يفهم''.
تحدث الحاج حسن خلف في عجالة عن قسم التصوير وذكر أنه تم تدريب من قرر الالتحاق بهذا القسم على استخدام الكاميرات المتطورة في ذلك الوقت، مشيرا إلى أن أبناء سيناء يتميزون بأن أحدا منهم إذا فشل في مهمته يقول فشلت وكلفوا غيري بهذه المهمة، وحينما سألتهم لماذا تقول: أنا فشلت يقول ''أفضل من أن أعطي معلومة خاطئة ربما يترتب عليها إعلان حالة الطوارئ في الجيش''.
وكان من أبطال ذلك القسم المجاهد السيناوي سالم الترباني، ابن قبيلة الترابين الذي يعيش في قرية المقضبة المتاخمة لجبل الحلال، والتي يلقبها أهالي سيناء بقرية المجاهدين. يقول الشيخ سالم ''بعد 67 ذهبنا للمخابرات الحربية وتم تدريبنا في منطقة الهرم بالجيزة، وتعلمنا كيفية استخدام أحدث الكاميرات في ذلك الحين وكيفية الاقتراب من العدو وتنفيذ المهام المطلوبة منا''.
ويوضح أنهم كانوا يختبئون وسط الأغنام ويرتدون ''القاعد''، وهو ملبس مصنوع من صوف الخراف، حتى يتمكنوا من الاختباء وسط الأغنام دون أن يكتشفهم العدو الإسرائيلي''، مضيفا أنهم كانوا ينقلون ''دبة النملة'' للقيادة المصرية.
عمل مجاهدو سيناء منذ سنة 1967 حتى سنة 1982 كان تطوعيا حبا في الوطن ليس إلا.
''خلف الخطوط''
وبالنسبة لقسم العمليات خلف الخطوط، قال خلف ''تم تدريب هذه المجموعة على كيفية إطلاق صواريخ الكاتيوشا والتي كان مداها 8 كم، حتى عبروا مرحلة التدريب بتفوق في منطقة خلف بورسعيد''.
ويضيف ''بحثنا عن وسيله لكي نوصل بها هذه الصواريخ لعمق سيناء وفكرنا مع قادتنا وابتكرنا علم جديد في عالم الحروب؛ قلنا فلنجرب كيفية عبور الإبل لقناة السويس وأحضرنا جمل من حرس الحدود وأخذناه إلى قناة السويس في منطقة الملاح جنوب القنطرة ونزل ضفضدع بشري في المياه وحاول سحب الجمل لداخلها، لكنه أبى، فأتى مجموعه من الجنود ودفعوه نحوها''.
''هنا اكتشفنا أن هذا الحيوان يعوم بطريقة سلسلة جدا، فاوصلناه إلى الضفة الشرقية وأعدناه مرة أخرى إلى الضفة الغربية، وخرج من الماء وإذا به في حيوةية ورشاقة عجيبة''.
يتذكر خلف أنه بعد اكتشافهم ذهبوا إلى أسواق الجمال واشتروا أفضلها، وحينما قرورا العبور إلى الضفة الشرقية من قناة السويس وضعوا الصواريخ في قارب مطاطي وأخذها أحد الجنود وعبر بها ثم عواموا الجمال بالتعاون مع الضفاضع البشرية، وعند هذه النقطة تنتهي مهمة الجندي والضفاضع البشرية وتبدأ معها مهمة أبناء سيناء.
يقوم أبناء سيناء – وفق رواية الحاج حسن - بتحميل هذه الصواريخ على الجمال ويبدأوا رحلة السير حتى عمق سيناء، عندها تأتيهم الإشارة عبر راديو صوت العرب، بأن عليهم قصف الموقع (أ) أو (ص)''.
وضرب لنا الحاج حسن خلف على أبرز العمليات التي شارك فيها؛ حيث قال:
''عقب استشهاد الفريق عبد المنعم ريضا يوم 9 مارس سنة 1969، قيادتنا الانتقام من العدو الإسرائيلي في أدق وأكبر مواقعه؛ فدرسنا كيفية ضرب مقر القيادة العسكرية في الجيش الإسرائيلي في سيناء. وضع قادتنا الخطة وساعة التنفيذ وكان لي الشرف أني قدت هذه العملية.
ذهبنا وراقبنا المقر وحددناه من جميع زواياه واخترنا المكان المناسب ونصبنا الصواريخ التي انطلقت في 5.20 فجرا أحد أيام شهر رمضان سنة 1969 بعد حوالي شهر من استشهاد الفريق رياض، وكان الله معانا فأصابت الصواريخ المقر إصابات مباشرة واعترف العدو بمقتل عدد من جنوده.
بعد نحو أربعين دقيقه كانت طائره هليكوبتر إسرائيلية تهبط في المكان ونزل منها الجنرال موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي وهنا قامت القيادة المصرية لإنقاذنا، وأعلنت في بيان عسكري أن هذه العملية قامت بها قواتنا البحرية وعادت لقواعدها سالمة. هذا البيان صرف أنظار العدو عنا وملاحقتنا في الصحراء''.
لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة واغتنم الفرصة واكسب 10000 جنيه أسبوعيا، للاشتراك ... اضغط هنا
فيديو قد يعجبك: