"الدكتور عُمر".. عجوز شردته صدمة عائلية وأنقذته "أيادي الخير" - صور
البحيرة – أحمد نصرة:
بخطوات ثقيلة وقدمين أصابهما الوهن، غادر العجوز "عمر" موضعه بجوار كومة من القمامة عند سور مدرسة دمنهور الثانوية بنين، متجهًا نحو سيارة تراكم الغبار فوقها، ارتفعت يده المرتعشة ومن بين أنامله المتشقق سطحها، أشهر سبابته وبدأ يمررها ببطء على زجاج إحدى السيارات، كانت آثار ما تركه إصبعه مذهلة ومثيرة، كتب بعض العبارات الدينية بخط أنيق للغاية، لا يتناسب مع مظهره الرث، من لم يره وهو يخطها، لن يجرؤ على مجرد تخيل أنها تخصه.
معلومات غريبة تناقلها أهالي المنطقة عن "الدكتور عمر" وهو الاسم الذي ينادى به، أغلبها سلوكيات غير معتادة من المشردين، فهو لا يقبل الأموال ولا يلقي إليها بالًا، تجد بعضها مما تصدق به المارة متناثرًا حوله، لا يلتقطها حتى يأتي من يأخذها أو تتطاير بفعل الرياح، تدفعه عزة نفسه إلى النبش في القمامة بحثًا عن بقايا الطعام، رافضًا مد يده إلى ما يجود به أهالي المنطقة.
"طلعنا لقينا الناس بتقول عليه الدكتور عمر، مش عارف إيه قصة الدكتور دي بس سمعنا إنه من عيلة كبيرة وهو شخص هادئ الطباع، وعنده زهد وعفة نفس غير عادية، وأحيان كتيرة بأشوفه ماسك كتب أو أوراق بيقرأ فيها".. يتحدث محمد نبيل أحد أهالي الحي عن عمر.
نشر أحد المتعاطفين صورة للعجوز مع بعض المعلومات البسيطة عنه ليثير اهتمام رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وأبدى عدد كبير من أهل الخير رغبتهم في مساعدته كان أسبقهم شاب يمتلك مركزًا للعلاج والتأهيل النفسي قرر استضافته والتكفل بكافة نفقاته.
وقال ماهر عاصي رئيس مجلس إدارة المركز: "انتقل فريق من المركز بسيارة إلى المكان الذي يتواجد به عمر وبعد محاولات مستمرة وبصعوبة بالغة استطعنا في النهاية إقناعه بالمجيء معنا، وكان الأمر يتطلب بعض الإجراءات القانونية لاستلامه رسميًا انهيناها بسهولة بفضل تفهم وتعاون الشرطة".
داخل مركز التأهيل تكشفت العديد من المعلومات التي تعلقت بـ"عمر" والسبب في تلك الحالة التي وصل إليها، وكانت المفاجأة انحداره بالفعل من عائلة عريقة، بل وامتلاكه إرثًا من الأموال.
تروي "ناهد" مديرة المركز المعلومات التي حصلت عليها من شقيق عمر: "كان عمر طالبًا نابغًا في الصف الثاني الثانوي، وكان لديه شقيقه الأكبر طبيبًا وأصابه مرضًا في الدم أدى إلى تدهور حالته ثم وفاته، ولم يحتمل عمر رحيله لشدة تعلقه به، فأصيب بصدمة أثرت على اتزانه وغادر المنزل إلى الشارع هائمًا على وجهه، ولم تفلح كل محاولات أسرته لإعادته للمنزل وكان يعود للشارع كلما أحضروه، وعلى مدار سنوات طويلة ظلت شقيقته تجهز له الطعام وتوصله إليه بالشارع، وربما كان ذلك هو السبب في رفضه قبول الطعام من الآخرين، ثم كانت الصدمة الثانية له بوفاة شقيقته، ووقتها فاجأ أسرته بالعودة من تلقاء نفسه للمنزل فاغتسل وارتدى ملابسًا نظيفة ووقف ليستقبل عزاءها، ومكث معهم أيام قليلة عاد بعدها للشارع ثانية".
يلتقط عاصي أطراف الحديث قائلًا: "عمر من عائلة كبيرة وفور وصوله لدينا أحضر له شقيقه ملابسًا جديدة وطلب مننا أن يتكفل بكافة مصاريف استضافته في المركز، إلا أننا أصررنا على استقباله وتحمل المركز لإقامته ونفقاته، فقط طلبنا من شقيقه تحمل بعض المصروفات الخاصة بما قد يحتاجه من أمور غير متوفرة عندنا كإجراء فحص طبي شامل".
"مصراوي" طلب التحدث إلى "عمر"، فأخبرنا العاملون أنه بالمصلى، ذهبنا ووجدناه يصلي خلف الإمام بطريقة سليمة، وعقب انهاء للصلاة جلس ليتمتم ببعض التسابيح، ثم تناول المصحف وبدأ في القراءة.
قالت ناهد: "عمر يصلي بطريقة صحيحة ويتوضأ بشكل سليم تمامًا وفقًا للسنة، وهو أمر طبيعي فوجوده لأكثر من 45 سنة بالشارع جعله دائم التردد على الموالد والأضرحة ومجالسته للشيوخ والمتصوفين، حيث كانوا يعدونه من أصحاب الكرامات، وأخبرنا شقيقه أنه ذات مرة ذهب لإحضاره من عند أحد الشيوخ في طنطا، فقال الشيخ له انشغلوا بأنفسكم أفضل فعمر في مكانة ومرتبة أفضل".
جاء عمر وأمسك بورقة وقلم وبدأ في الكتابة أمامنا بخطه الجميل ودون أخطاء إملائية، ولكن كانت المفاجأة الأكبر عندما تناول تذكرة دخول وبدأ في قراءة كلماتها ومصطلحاتها الطبية بإنجليزية سليمة.
وأوضح عاصي ما ينوون فعله مع عمر قائلًا: "سنبدأ في وضع برنامج علاج نفسي وتأهيلي معه، حتى يصبح مهيئًا للالتحاق بدور رعاية المسنين، ويحتاج ذلك بعض الوقت حتى نستطيع تعديل بعض الخصائص السلوكية التي تطبع بها نتيجة لظروف حياته في الشارع".
وأضاف عاصي: "هناك رسالة ومطلب ملح أتمنى من المسؤولين العمل على تحقيقها وتتمثل في تبني مشروع قومي للاهتمام بالمشردين من خلال توفير مراكز متخصصة لهم بجميع مدن الجمهورية يتم إيوائهم بها وتوفير الرعاية الصحية والنفسية لهم من خلالها".
فيديو قد يعجبك: