إعلان

مسجد الأربعين.. روحانيات رمضان بين أساطير القناة ومزامير المتعبدين

10:07 م السبت 27 مايو 2017

السويس - حسام الدين أحمد:

خطوتان فقط تفصلان زحام الشارع وضجيج السوق عن حالة السكينة والهدوء التي تغطي المصلين والذاكرين الله بمسجد الأربعين، أصوات قراءة القرآن في أول أيام رمضان متناغمة، وكأنها مزامير داود تعزف من خلف أعمدة يتكأ عليها الصائمين وأركان تحتضن خلوات الذكر في المسجد.

ما إن تطأ قدميك المسجد بين العصر والمغرب حتى تشعر وكأنك في حُلة تأسر روحك وتغمرك بأجواء رمضان وتأخذك في عالم تضيئه مشكاة الأجواء الروحانية فتتملكك رغبة في البقاء أطول وقت ممكن، مبعثها راحة سرها الطاعة والعبادة.

على مرمى بصرك، تجد العامل اتخذ قيلولة وغفا من جُهد الصيام، وآخر تحمل فأنهى صلاته وأمسك بالمصحف يتلو ما تيسر ما كتاب الله في شهر الرحمة والغفران، وطفل تتساقط مياه الوضوء من مرفقيه ووجه وهو يوسع خطوات قدمه ليلحق الجماعة الثانية بنهاية المسجد، وعلى الباب يخرج المصلين ما تجود به أنفسهم لأصحاب الحاجات.

يعتبر مسجد الأربعين، أو سيدي عبد الله الأربعين من أقدم المساجد في السويس، بناه الأهالي في العام 1910، بعد وفاة رجل صالح يقال إنه كان الشيخ عبد الله الأربعين، وشهد المسجد عدة أعمال تطوير كان آخرها في عام 2011، ويضم المسجد 3 أبواب رئيسية بابين يسارًا يطلان على شارع الجيش الرئيس، والثالث بالجهة اليمنى ويطل مباشرة على سوق شميس الشعبي.

لم يكن وجه القلزم -اسم السويس قديمًا- بتلك الصورة التي نراها عليها الآن، فقلب المدينة كان قرب كورنيش السويس القديم، حيث تقع أقدم منشآت المحافظة، والتي طبعت عليها العمارة الإسلامية قبل 5 قرون، وهناك كان مرفأ السفن التي كانت تبحر بالحجاج إلى الحجاز، فضلاً عن كونه نقطة انطلاق رحلات الصيد.

وكانت منطقة الأربعين مكانًا لسكن العمال المشتغلين بحفر قناة السويس، وعمال السكة الحديد، وكذلك العاملين لاحقًا بقناة السويس، وتوفير الخدمات المعاونة لمن يديروها إلى التأميم.

قبل عشرات السنين أطلق اسم الأربعين على الحي الشعبي الأكبر في السويس، والذي تتركز فيه أغلب الجمعيات التي تنتمي لأصول الصعايدة والفلاحين والذين توافدوا على السويس عقب حرب أكتوبر، ويضم أكثر من 40% من الكتلة السكنية في المحافظة، ويمتلك ثلث القوة التصويتية لدائرة السويس، ويتحكم بقوة في الانتخابات البرلمانية.

كما أطلق الاسم على الميدان الذي يبعد عن المسجد قرابة 150 مترًا، وكان له دورًا كبيرًا في ثورة 25 يناير؛ فجموع المتظاهرين كانت تنطلق عقب صلاة الجمعة من المسجد إلى الميدان، وعلى تلك الأرض سقط أول شهيد في الثورة.

"ولي عارف بطل شهيد.. رياحين تحيط به وطيبَ .. له الاشراق في نور تجلى .. كشمس في شروق لا تغيب"، تتصدر تلك الأبيات لوحة تستحوذ على المشهد وانتباه كل من يزور ضريح ينسب إلى "البطل الشهيد الشيخ عبد الله الملقب بالأربعين"، بحسب تلك اللوحة في الغرفة الكائنة خلف المصلين بمسجد الأربعين.

شخصية عبد الله الأربعين، تدور حولها عدة قصص وروايات شعبية، بعضها يستند على القصص المروية دون نسب حقيقي، إلا أنه ومع الأدلة المادية تختلط الحقائق حول هوية هذا الشيخ، وما إذا كان هذا "الأربعين" لقبًا كان يحمله أو اكتسبه أو أنه عدد لأشخاص بعينهم كان هو أحدهم أو آخرهم.

"كان رجلاً صالحًا وقاوم نظام السخرة، واستشهد هو ورفاقه الآخرين -وكانوا أربعين- رجلاً في معارك ضد المعتدين على قوافل الحج"؛ يقول الشيخ محمود زرزور، وكيل المشيخة العام للطرق الصوفية في السويس، ويضيف: "وصل الأربعين للسويس ورفاقه عقب البدء في حفر القناة، وكان يرفض نظام السخرة المتبع في العمل وثار ضده".

"اسمه عبد الله بن مشهور بن علي بن أبي بكر العلوي"، يخبر الشيخ زرزور عن الاسم الحقيقي للشيخ عبد الله الأربعين، ويشير إلى أن عبد الله كان مشهورًا برؤيته الخضر عليه السلام، ويوضح أنه حصل على تلك المعلومات عبر استخلاصها من كتب الأثر.

ويروي وكيل الطرق الصوفية في السويس، أن بن مشهور ورفاقه عهدوا على نفسهم التصدي لمن يغيرون على قوافل الحجاج التي كانت تتلاقي تباعًا في السويس بعد شهر رمضان وتنطلق عبر خليج السويس إلى أراضي الحجاز، وعاهدوا الله على النصرة أو الشهادة في تلك المعارك، ودفنوا على بعد أمتار من المسجد الذي بناه الأهالي عام 1910 وأطلقوا عليه اسم مسجد سيدي عبد الله الأربعين.

ويضيف الشيخ زرزور: "إنهم الأربعين رجلاً صدقوا عهدهم ونالوا الشهادة تباعًا، وكان آخرهم عبد الله الذي توفي في عام 1124 هجريًا، وفقًا لكتاب (مشايخ بلا أضرحة) للباحث رضا الحلواني، وأنشأ الأهالي مسجدًا قرب قبره".

ويشير وكيل الطرق الصوفية إلى أن هناك عدة مساجد تحمل اسم الشيخ الأربعين موجودة في جرجا بسوهاج، وفي بورسعيد، وكوبري الجميل بالشرقية، وإمبابة بالقاهرة، والبهنسية، وهي مساجد بلا أضرحة.

وعن الاحتفال بمولده في ليلة النصف من شعبان، فيقول إن "المحليات" في السويس هي من حددت ذلك الوقت من كل عام تبركًا بتلك الأيام التي يستعد فيها الناس لاستقبال شهر رمضان.

لكن شيئًا من تلك الرواية التي تنتشر بين الناس وتلقى قبولاً تتضارب مع الثوابت التاريخية، فأعمال الحفر بقناة السويس القديمة بدأ عام 1859، واستمرت 10 سنوات، أي بعد سنة 1712 ميلاديًا بأكثر من قرن، وهو التقويم الميلادي المقابل لسنة 1124 هجرية.

"الضريح كان به 40 جثمان لرجال وسيدات وأطفال"؛ يتحدث الدكتور كمال البربري مدير الدعوة بمدن القناة ومدير أوقاف السويس السابق، عما عثر عليه الرجال الذين تولوا نقل الضريح عام 2001.

ويفسر أن ضريح الأربعين كان بالجهة المقابلة للمسجد بشارع الجيش، قرب شريط السكة الحديد، وخلال أعمال التطوير بميدان الأربعين، أُلغيت خطوط القطار من قلب المدينة، وكان مكان الضريح في الموضع الذي توجد فيه الآن النافورة، وكان النقل بهدف وضع رفات الشيخ داخل المسجد.

"شاركت في نقل الرفات بسرية تامة ليلاً وبعيدًا عن أعين الأهالي، وفوجئت بأن الضريح ليس لرجل واحد وإنما كان (معضمة) تضم رفات وعظام مختلفة الأطوال والأحجام"؛ يحكى الدكتور بربري المشهد بالمقبرة، ويضيف أن الرجال الذين تولوا عملية النقل حصروا "الجماجم" فكانت 40 جمجمة.

ويكشف البربري أن الأثريين الذين فحصوا هذه الجماجم والرفات أكدوا أنها ليست لرجال فقط، وإنما لسيدات وأطفال أيضًا، فهي مختلفة الأحجام والأشكال.

واستكمل أن السويس كانت بوابة العبور إلى الحجاز حتى قبل 50 عامًا، وكانت كل قوافل الحجاج الوافدين من دول المغرب العربي ومصر تمر من القلزم التي كنت عتبة الحجاج، ويرجح أن تكون هذه الرفات لأربعين شخصًا من أسرة واحدة، فالمعضمة ضمت رجالاً ونساءً وأطفالاً، وتلك المنطقة التي يقع فيها المسجد لم تكن يومًا أرض مقابر، ولم تشهد حربًا في القرن التاسع عشر، لكن وجود هذا العدد تحديدًا يعنى أن هناك صلة بينهم، لكن هذه الصلة وهذه القصة أبعد ما تكون عن رواية الأربعين رجلاً الصالحين.

"أسر بأكملها شاركت في حفر القناة"؛ يقول أنور فتح الباب موجه التاريخ والباحث في تاريخ السويس، ويضيف أن الحديث عن رواية الشيخ الأربعين أمر غير قطعي تاريخيًا، وأنه وفقًا لسجلات حفر القناة القديمة فإن هناك عدة أسر وفدت إلى السويس مع حفر القناة، وكان رب الأسرة يتولى الحفر، أما السيدات والأطفال فيتولون أدوارًا مساعدة من إعداد الطعام وخدمة العاملين، وأثناء ذلك انهار عليهم جزء صخري، فالمنطقة الجنوبية من القناة تربة صخرية، وكان عدد الضحايا 40 شخصًا ما بين رجال عاملين ونساء وأطفال يقدمون الخدمات لهم، ودفنوا في مقبرة واحدة أقيمت لهم، على حد قوله الذي لم يزل الغموض وزاد الحكاية التباسًا قد يكشف يومًا.​

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان