"رصوا الصاجات غزالي مات".. أبيات كتبها بطل ناعيًا نفسه قبل وفاته بـ 48 عامًا
السويس - حسام الدين أحمد:
"رصوا الصاجات.. رصوا الصاجات.. غزالي مات غزالي مات" ليست تلك الكلمات نعيًا لصاحبها كابتن غزالي الذي وافته المنية صباح أمس الأحد، لكنها مطلع قصيدة كتبها بخط يديه قبل 48 عامًا، عندما أوقفته قوات الشرطة في العام 1969 في أول طريق السويس بمنطقة الكيلو "4 ونص" في آتون حرب الاستنزاف، ومنعته من دخول المحافظة فجلس أرضًا وسطر اعتراضًا في مطلع قصيدة تصف ما حدث، اعتبر فيها أن ذلك بمثابة إعلان بوفاته، ولم تر تلك القصيدة النور على أوراق الصحف أو الكتب.
كان للكلمة دورًا هامًا خلال معارك حرب الاستنزاف، وفي كفاح المقاومة الشعبية في السويس، فاستراتيجية الحروب وتوازنات المعارك كانت تميل في أحيان كثيرة إلى وقف الاشتباك، لكن الشعر والأغنية وأوتار السمسمية لم تتوقف عن مد الشارع بالحماس، وحافظ الكابتن غزالي شاعر المقاومة الشعبية بكلماته على تجييش الشعب المصري كله من خلال الأغاني والأشعار والتي رفعت روحهم المعنوية طوال فترة السنوات السبع التي أنتهت بنصر أكتوبر.
في 10 نوفمبر عام 1928 ولد محمد أحمد غزالي، بقرية أبنود بمحافظة قنا، ثم انتقل مع أسرته للسويس، ودرس بمدرسة السويس الثانوية للصناعات البحرية، ثم التحق بقسم الدراسات الحرة في معهد " ليوناردو دافنشي" وعمل عقب ذلك بمديرية الزراعة في السويس، وهوى القراءة والمصارعة في صغره.
لكن طاقة الشباب غلبت ميله للتثقيف ودفعته للرياضة فلعب المصارعة بنادي اتحاد السويس، واحترفها حتى أصبح "كابتن" ومدربًا للعبة، ورغم شغفه وكتابة مئات القصائد استحق عنها لقب الأستاذ او الاديب والشاعر، لكن لقب الكابتن كان الأقرب لقلبه.
مواقف كثيرة من حياة غزالي شاعر المقاومة، نكشف عنها في السطور التالية، كان بعضها سببًا في سجنه تارة وتهجيره جبريًا تارة أخرى.
الأسلحة المعنوية
عقب تأميم قناة السويس وقبل العدوان الثلاثة كانت في مدينة بورتوفيق في السويس قوات احتياطية لمواجهة القوات الإسرائيلية ومنع محاولة دخولها وكانت أسطح العمارات عليها أسلحة مدفعية مضادة للطيران، لمواجهة أي غارات جوية على السويس.
كان الكابتن غزالي شابًا آنذاك ضمن مجموعات الدفاع الشعبي وحصل على بندقية " 7 -62 "، وكان هو السلاح المنتشر في ذلك الوقت ويطلق طلقة مفرده، ومزود بـ "سنكي"، وعقب حصار قوات الاحتلال الإنجليزية لبورسعيد توجه عدد كبير من الفدائيين في السويس وساروا في طريق موازية للقناة، بهدف التسلل إلى بورسعيد والانضمام إلى المقاومة الشعبية هناك وبعد التحرك في أتوبيسين على طول خط القناة بقيادة الصاغ صلاح سالم، لم يتمكنوا من الدخول بسبب شدة الحصار.
عقب حرب يونيو 67 أدرك أبناء السويس بحكم موقعهم ما يدور في سيناء ولم يكن أيًا منهم في حاجه لتصديق ما تبثه الإذاعة، في ذلك الوقت كان هناك مبادرات فردية من الشباب للإبحار شرقًا لنقل الجنود المصابين من سيناء، بمعاونة مجموعات من اللجان على الطريق المتاخم للقناة.
كان غزالي قائد المجموعة الخامسة، وكان لتلك المجموعة دورًا مختلفًا، فبعد نقل الجنود المصابين الشاردين في صحراء سيناء، كان الكابتن ينشد الشعر الغنائي الذي يسطره للحرص على إشعال الهمة والعزيمة، وباقي مجموعته تردد خلفه وتهتف، حتى ظن الإسرائيليين وهم بالجانب الآخر، أن قوات جديدة وصلت لخط القناة في السويس.
وكانت الأسلحة المعنوية هامة للغاية في ذلك الوقت، فخرجت فرقة "البطاطين" من قلب معاناة النكسة لتغني ما توارثه الشباب من تراث، وكانت الكلمات حماسية تروى بطولات الشباب على خط القنال وعمليات الفدائيين في حرب الاستنزاف بهدف التعبئة النفسية والمعنوية للجنود وللشباب.
"ولاد الأرض"
الظروف هي ما دفعت غزالي لتكوين فرقة "البطاطين" عندما ابتدع ومجموعة من الشعراء والمثقفين وسيله متاحه وشكلوا فرق استهدفت توعية المواطنين، ودفع ذلك شاعر المقاومة إلى كتابة أغاني وأشعار مستوحاة من قلب الظروف التي عايشها السويس، لم تكن هذه الفرقة قد وضعت اسمًا لها بعد وكانت تفتقد الفكرة الفنية أيضًا، فركز الشاعر في كلماته التي كانت تتغني بها الفرقة على الدفاع عن النفس والوطن واشتهرت المجموعة بين الشعب السويسي، وأطلقوا عليها فرقة "البطاطين" على سبيل السخرية من الأوضاع عندما افترش أعضاؤها البطاطين وسط التجمعات السكنية، يتحدثون للأهالي عن الظروف القائمة ويطالبونهم بالصمود والثبات.
بالتجربة اكتشف الغزالي أن سلاح الغناء مهم، وبرزت الفكرة بشكل أكبر وتحول اسم الفرقة إلى "ولاد الأرض"، تولى هو قيادتها، واشتهرت بأغانيها الحماسية المتصدية للعدو الإسرائيلي على ضفة القناة بالفن.
التجهير والعمل السياسي
صدر قرار بتجهير أهالي السويس في نهاية أكتوبر 1967، وبعد التجهير تحولت فرقة "ولاد الأرض" إلى عمل سياسي. ويرى بعض مؤرخي تلك المرحلة أن الفرقة كانت بمثابة العمل الموازي للجهاد العسكري في الداخل السويسي، وامتزجت العسكرية بالفن فقدمت الفرقة مجموعات من الفدائيين والعديد من الشهداء.
كانت للكلمات والأشعار التي كتبها غزالي عقب النكسة وإلى فترة حرب أكتوبر والمقاومة الشعبية دورًا عظيمًا، وقد رافق الكلمات عزف السمسمية، تلك الآلة البسيطة التي يستطيع أي شخص أن يعزف عليها، وساهم ذلك في انتشار وحفظ تلك الأغاني سريعًا.
"هيلا هيلا يلا بينا.. نحرر أراضينا.. عضم ولادنا نلمه نلمه.. نسنه نسنه.. نعمل منه مدافع وندافع ونجيب النصر هدية لمصر نكتب عليه أسامينا"، أبيات من مطلع قصيدة "هيلا هيلا" التي كتبها غزالي عقب النكسة، وهي واحدة ضمن عشرات القصائد التي كتبها ومثلت أحد أهم فنون المقاومة التي لازمت الحرب.
تجهير جبري
كان غزالي في نظر النظام رجلاً مشاكسًا، ولم يعجب بعض من يملكون زمام الأمور في مصر دور غزالي التثقيفي في نقل أخبار المعارك إلى المهجرين في مختلف المحافظات، وظهر ذلك واضحًا في منعه مرات عديدة من دخول السويس، وبسبب إصراره على استمرار تشكيلات المقاومة الشعبية ووضع السلاح في أيدي الشعب لمواجهة القوات الإسرائيلية، ومعارضته قرار تسريح المقاومة الشعبية وسحب الأسلحة، فصدر في 7 مارس 1973 قرارًا بتجهيره جبريًا وخروجه من السويس.
كان غزالي يرى أن حرب أكتوبر جرت دون مشاركة شعبية حقيقية، وذلك ما دفعه أن يخوض حربًا يطالب فيها بأهمية وضرورة ما وصفه بإعادة تصويب التاريخ وتصحيحه حتى ترى الأجيال القادمة مدى عظمة التضحية بالأرواح في سبيل مصر .
الغزالي مشارك
كان أعضاء منظمة سيناء العربية والفدائيين في السويس يرون الغزالي رغم تهجيره وعدم مشاركته في المقاومة الشعبية بالمدينة مشاركًا في المعركة بالتعبئة المعنوية والنفسية في كل العمليات الفدائية التي جرت على الجبهة.
25 يناير وغزالي
"يا دم الشهداء يا طاهر.. يا معطر فى الحواري.. يا محنى تراب بلدنا، يا منور فى العلالي، صامدين يا سويس صامدين، بايسين قهر السنين ومدوبنا الحنين وأشتقنا بالأحضان يا سويس"، أبيات أخرى كتبها غزالي بعد تجهيره من السويس، وبشكل غير مباشر هتف شباب الثورة في بلد الغريب أيام ثورة 25 يناير بها في ليالي الخطر وقت الثورة.
عقب انتهاء الحرب وفك حصار السويس عهد غزالي إلى نفسه أن يستمر في المقاومة والحرب على الجهل الذي كان يرى أنه لا يقل خطرًا عن العدو الأجنبي، واستغل مقهى "نيو سوريا" في ذلك، وكذلك المحل الصغير الذي كان يملكه بشارع أحمد شوقي في السويس. واتسعت جدرانه بما تحمله من مئات الكتب والأعداد التاريخية من المجلات والصحف. وكثيرًا ما تحولت مساحة مترين في متر ونصف المتبقية من المحل إلى حلقة نقاش سياسية أو فكرية وثقافية.
التكريم وأسطورة السويس
نال غزالي حظًا وفيرًا من التكريم سواء داخل السويس أو خارجها، وخلال تكريمه في أكتوبر الماضي من أعضاء تكتل "25-30 " بالبرلمان، تطرق في كلمته إلى فكرة الفدائي والمقاوم والبطل، وقال: "عدد الذين استمر تواجدهم بالسويس عقب التهجير قارب 5 آلاف مدني، دون حسابات كلهم أبطال ومقاومون لكننا نسيناهم بمرور الوقت، أما تكريم الرموز الشعبية خلال احتفالات ذكرى 24 أكتوبر فهو تكريم رمزي لتضحيات آلاف من الشهداء الذين سقطوا في المقاومة والمدنيين العزل الذين ماتوا بفعل الضربات الغادرة من إسرائيل".
واستطرد قائلاً: "أنا لولا إني محظوظ مكانش حد عرف من هو غزالي.. الناس حفظتني ونسيت أبطال تانيين هي الرموز وهتفضل باقية زي العناوين".
فيديو قد يعجبك: