أستاذ جامعي: ثورة مضادة في أوروبا.. ولكن لم يفت الوقت لإنقاذها
كتب- هشام عبدالخالق:
نشرت جامعة أوكسفورد البريطانية- عبر مُدونتها الصحفية - مقالاً لأستاذ السياسات الأوروبية في الجامعة، جين زيلونكا، متحدثًا فيه حول التحديات التي تواجه القارة العجوز حاليًا مُشبهًا إياها بالثورة المُضادة.
وقال زيلونكا، في بداية المقال: "بعد عدة أشهر من سقوط جدار برلين، كتب عالم الاجتماع رالف داريندورف كتابًا على غرار كتاب السياسي إدموند بيرك والذي حمل عنوان "انعكاسات على الثورة في فرنسا"، وكان اسم كتاب داريندورف "انعكاسات على الثورة في أوروبا"، ومثلما فعل بيرك، اختار أن يصيغ كتابه على هيئة خطاب للسادة في وارسو ببولندا، وكانت نيّته تفسير الأحداث غير المفهومة التي كانت تحدث في أوروبا في عام 1989، والتي كانت تؤثر على الفترة المضطربة من دراسته في كلية سانت أنتوني بجامعة أوكسفورد".
وتابع زيلونكا، لم يشترك داريندورف مع بيرك في ليبراليته المحافظة، ولا يبدو كتابه مثل كتيب بيرك من الناحية السياسية، حيث رأى داريندورف ثورة ليبرالية تتطور في أوروبا الشرقية، وحاول تحديد الفرص التي خلقتها هذه الثورة، وكذلك الفخاخ المحتملة التي تقع في طريقها.
ويضيف الكاتب، اليوم، نحن نشهد فترة مضطربة أيضًا من تاريخ أوروبا، وعلى الرغم من ذلك، نتجه في الاتجاه المضاد، وتتعرض عدة ركائز أساسية للثورة - والتي حللها داريندورف - للهجوم مثل ديمقراطية البرلمان، التجارة الحرة، الهجرة، والتنوع الثقافي في المجتمع، الحقائق التاريخية والتصحيح السياسي، والأحزاب السياسية المعتدلة ووسائل الإعلام الرئيسية، التسامح الثقافي، والحياد الديني، والدبلوماسية متعددة الأطراف، والتكامل الأوروبي، واختصارًا للوقت، نحن نشهد اليوم ثورة مضادة.
ويقول الكاتب: "قررت أن أكتب عن هذا المأزق الذي تعيشه أوروبا بنفس الطريقة التي كتب بها داريندورف منذ ثلاثة عقود، هل يستطيع المجتمع الحر النجاة حاليًا؟ هل تتفكك أوروبا؟ كيف تتجاوز أوروبا أزمتها الاقتصادية؟ وهل سيشعر الأوروبيون بالأمان مجددًا؟".
ويشرح الكاتب أسباب تسميته لما تشهده أوروبا حاليًا بـ "الثورة المضادة"، حيث يقول: "لا توجد حواجز ترفع في الشوارع الأوروبية، أو إضرابات في المصانع، ولا توجد أيديولوجية واحدة ترتقي لتوحد حركات التظاهر، هناك الكثير من الحديث حول السياسات المضادة، ولكن من يُنشئ الأحزاب ويقود المظاهرات هو من يفوز بالانتخابات".
وتابع الكاتب، سوف يكون من الخطأ الافتراض أن الثورة أو الثورة المضادة، يجب أن تشتمل على تعبئة جماعية وعنف يبلغ ذروته عند تاريخ معين، فالشيوعية انهارت بدون عنف، وقد تمكنت حركة التضامن البولندي من تنظيم إضرابات جماهيرية في عام 1980، وجاء التغيير بشكل أساسي من خلال اتفاقات بين النخب القديمة والجديدة، وعن طريق الانتخابات، وعلى الرغم من ذلك، من الصعب إنكار أن عملية التغيير السلمية هذه لم تغير أوروبا، والتاريخ لم ينتهِ عندئذ وتم استبدال التاريخ القديم بواحد جديد.
وأضاف: على الرغم من أن بعض القادة الشيوعيين ظلوا في السُلطة، إلا أنهم استطاعوا تحقيق ذلك فقط بعد أن اعتنقوا النظام الليبرالي الجديد، ولذلك يُطلق عليها داريندورف لقب ثورة.
"لقد تفكك الاتحاد السوفياتي ويوغوسلافيا، وتمت إعادة توحيد ألمانيا، وتم توسيع نطاق الاتحاد الأوروبي والناتو بشكل كبير، ورحب عدد كبير من الأشخاص بالأنظمة الجديدة في مناطقهم، ولكن يشعر البعض بالحرمان إما بسبب خلفيتهم الإثنية، أو لافتقارهم إلى المهارات المهنية الكافية للعمل في بيئة تنافسية جديدة، وقد تم بالفعل تعديل توازن القوى الذي طال أمده في أوروبا، وبدأت روسيا في رؤية نفسها كضحية للظلم والاضطهاد، وكذلك وجدت فرنسا نفسها في موقف ضعيف، مثلما كانت ألمانيا من قبل".
وقد أعقبت الثورة الجيوسياسية أخرى اقتصادية، فمع سقوط الشيوعية تعرضت بعض مثلها العليا للمهاجمة: مثل الجماعية، وإعادة التوزيع، والحماية الاجتماعية، وتدخل الدولة في الاقتصاد، ومهد هذا الطريق أمام الاقتصاديات الجديدة لتَبَوُّؤَ مركز مهيمن في جميع أنحاء القارة بأكملها، وليس فقط في بريطانيا.
أصبحت عملية إلغاء الضوابط التنظيمية والتسويق والخصخصة، طريقة سير الأمور اليوم، حتى في الدول التي تديرها الأحزاب الاشتراكية، وتوسّع القطاع الخاص على حساب نظيره القطاع العام، وحتى في دول مثل فرنسا أو إسبانيا، التي كانت موطن النقابات القوية، فإن أقل من 10٪ من القوى العاملة في النقابات الآن، وانخفضت عضوية نقابة العمال التضامنية في بولندا خمس مرات منذ عام 1989، اليوم أقل من 5٪ من القوى العاملة في بولندا ينتمون لنقابات.
في جميع أنحاء أوروبا، كانت السياسة تقدم على أنها فن الهندسة المؤسسية، وليس كفن المساومة السياسية بين الناخبين والنُخبة السياسية، وقد تم تفويض مزيد من الصلاحيات للمؤسسات غير ذات الأغلبية - مثل البنوك المركزية، المحاكم الدستورية، والهيئات التنظيمية - للتأكد من أن القرارات يسود عليها "العقل" وليس "العاطفة".
وقيل إن الأغلبية تنفق المال الذي لا تملكه، من أجل التمييز ضد جميع أنواع الأقليات، لدعم الأسباب المعقدة أخلاقيًا مثل عقوبة الإعدام أو التعذيب، وقد تم التشكيك في فكرة أن المصالح العامة يجب أن تعكس رغبات الجمهور، وقيل إن المصالح يحددها بشكل أفضل: القادة العسكريون، المصرفيون، التُجار، المحامون، وبالطبع قائدو الأحزاب الحاكمة.
اليوم، يواجه الإرث الذي تركه لنا الليبراليون الضغط، ليس فقط في ديمقراطيات ما بعد الشيوعية في أوروبا الشرقية والديمقراطيات المدينة في جنوب أوروبا، ولكن أيضًا في البلدان الأوروبية الأكثر ثراءً مثل النمسا وفنلندا وألمانيا وهولندا، وذلك لأن الليبراليين إذا تعرضوا للخطر، يرفضون النظر في المرآة والتعرف على أوجه تقصيرهم، مما أدى إلى زيادة شعبيتهم في جميع أنحاء القارة.
ويضيف الكاتب، الشعبيون ليس لديهم قيادة ذات كاريزما ولا برامج ذات مصداقية، ولكنهم أقوياء لأن الليبراليين كانوا يؤدون بشكل سيء لسنوات عديدة.
ويقول الكاتب: "ردي على داريندورف أن أوروبا ومشروعها الليبرالي يجب أن يتم اكتشافهما من جديد، وليس هناك أي طريقة أخرى يمكن القيام بهذا الأمر، وفشلت أوروبا في التكيف مع التغيرات الجيوسياسية والاقتصادية والتكنولوجية الهائلة التي اجتاحت القارة على مدى العقود الثلاثة الماضية، فالنماذج الأوروبية للديمقراطية والرأسمالية والتكامل، ليست في تزامن مع الشبكات المعقدة الجديدة من المدن أو المصرفيين أو الإرهابيين أو المهاجرين".
ويختتم الكاتب مقاله بالقول: "تم إفشاء سر القيم الليبرالية التي جعلت أوروبا تزدهر لعدة عقود، ولم يترك تصاعد العواطف والخرافات والأكاذيب مجالًا كافيًا للمنطق، أو المداولات أو التوفيق، ولكن ما زال هناك مخرج من المأزق الأوروبي الحالي".
فيديو قد يعجبك: