من بلاد الحرب المنسية.. المقطري تحكي "أصوات المعذبين بالنجاة" في اليمن
كتب – سامي مجدي:
في الحرب يموت البعض ويعيش البعض يحمل ندبات لا يستطيع الزمن أن يمحيها. في الحرب يربح البعض ربما كل شيء ويخسر البعض ربما كل شيء. "آثار الحرب لا تُمحى، يبقى أثرها في أرواحنا، وذاكرتنا"، كما تقول الكاتبة اليمنية بشرى المقطري التي جابت اليمن شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، ساعية وراء قصص حقيقية من "البلاد الحزينة"، تحكي من خلالها ما حل باليمن، موطنها، جراء سنوات من الحرب الأهلية.
خطت المقطري، ربما بدموعها وفي ضوء الشموع كتابها " ماذا تركت وراءك؟ أصوات من بلاد الحرب المنسية" الذي أخرجته إلى النور دار رياض الريس في مارس الماضي، وحكت خلاله قصة الحرب اليمنية الدائرة منذ سبتمبر 2014، ربما دون أي مؤشر على إنفراجة في الأفق تخفف من معاناة أكثر من 26 مليون يمني يقف أغلبهم على بعد خطوة من الجوع الذي التهم في طريقه مئات الآلاف من الأطفال، وترك غيرهم ينتظرون مصيرهم المحتوم إن لم تتوقف آلة القتال بين طرفي الحرب: الحكومة الشرعية المدعومة من تحالف تقوده المملكة العربية السعودية من جهة، والحوثيون المدعومون من إيران المنافس الإقليمي وربما العدو اللدود للسعودية.
تكتب المقطري، -الحائزة على جائزة "فرانسوا جيرو" للدفاع عن الحقوق والحريات في باريس عام 2013-، في روايتها التي تنطق بلسان بشر أحياء ذاقوا مرارة الفقد وذل القهر والعجز، شهادات وأصوات يمنية باتت إصاباتها المادية والمعنوية عصية على الشفاء؛ تراها الكاتبة "أصبع في عين القتلة وكلاب الصيد الذين يختبئون خلفهم، وهي أيضاً ذاكرة ضدّ النسيان، ضدّ التجاهل، ضدّ اللامبالاة، عزاء وسلام لأرواح كل الذين قُتلوا وتركوا ورائهم أحبّة يتذكّرونهم".
الكتاب، الذي يتحدث عن البشر كقصص وحكايات من لحم ودم وحياة، وليس كأرقام مخطوطة في دفاتر، مُؤلف من أكثر من 260 صفحة في القطع الصغير؛ غلافه تتوسطه صورة لطفلِ لم يبرح سن البراءة بعد، يقف أمام منزل من آلاف المنازل التي دمرتها الحرب، يمسح دموعه بظهر يده الصغيرة وهي ممسكة بشيء ما، تلك الدموع التي ربما سالت ربما على من ذابت عظامهم في الحديد والحجارة، ويختلس نظرة بطرف عينه وكأنه يتأوه ويقول: "بأي ذنب قُتل هؤلاء."
في نهاية الكتاب بيلوغرافيا مختصرة من نحو أربعين صفحة لمدنيين سقطوا بقذيفة هنا أو غارة جوية هناك في الحرب التي أراد العالم "إسدال ستار عليها ليخفي ضحاياها ويكافئ جلّاديها."
بدأت الحرب الأهلية في اليمن عندما زحف الحوثيون المتحالفون مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح في سبتمبر 2014 إلى العاصمة صنعاء وسيطروا على مؤسسات الدولة التي يترأسها عبد ربه منصور هادي المعترف به دوليا، ثم أكملوا زحفهم حتى وصلوا مدينة عدن الجنوبية التي لجأ إليها هادي وحكومته فرارًا من الحوثين وصالح. هذا قبل أن يكمل فراره إلى السعودية التي أعلنت في مارس من العام التالي (2015) تحالفا عسكريا بقيادتها، وبدأت حملة جوية ضد الحوثيين وحليفهم صالح الذي أطاحت به انتفاضة الربيع العربي في 2011. (قَتَلَ الحوثيون صالح في ديسمبر 2017 عندما دبت الخلافات بينهم وانطلق الرئيس السابق يخطب ود التحالف العربي).
منذ ذلك الحين لم تهدأ آلة الحرب بين طرفي القتال. فشلت كل محاولات المجتمع الدولي على مدى نحو أربع سنوات في وقف المقتلة التي "لا شيء حقيقي فيها سوى الضحايا ومن سحقته الحرب."
"كلهم قتلة"
بعد مقدمة طالت حتى عشر صفحات، اختصرت فيها كيف "ارتددنا إلى عصور ما قبل الحضارة"، بدأت بشرى المقطري المولودة في 1979، حكاياتها بقصة المواطن اليمني أحمد عبد الحميد سيف، الذي استهدفت طائرات التحالف العربي عصر الخميس 26 يناير 2017 منزل أخيه فهمي في منطقة القطيع بمدينة الحديدة، فقتلت عشرة أشخاص بينهم زوجة أخيه وأبناؤهما محمد (12 سنة)، وملاك (3 سنوات) وملكات (سنة ونصف)، وأصابت ابنهما الآخر عمار (8 سنوات) الذي بترت ساقه اليسرى.
يصف أحمد سيف ما رآه في ذلك اليوم بأنه كان "فيلما من أفلام الرعب... دون صوت ولا ممثلين..... فيلم لم يره أحد سواي في ذلك النهار: الصاروخ يطير، آتيا من جهة الغرب، ثم يسقط في بيت أخي."
"لكني أفكر الآن في أن الصاروخ لا يهبط هكذا من السماء، الصاروخ وراءه عقل مجرم هو من كبس الزر ليحدد الهدف، منزل أخي، قاتلا النساء والأطفال."
ينشغل أحمد بحال أخيه الذي فقد عائلته عدا واحدا يعاني من بتر ساقه. يقول:
"يحمل أخي غصته في قلبه، لا ينسى ولا ينام، يتشاغل في علاج ابنه المصاب. أحمل أحزان أخي على ظهري، أدخل البيت وتنفتح الذكريات، أتذكر أولاد أخي وزوجته، ضحكهم وصخبهم وحياتنا الجميلة، ألعن التحالف ومن جاء بهم إلى بلادنا، ألعن كل أطراف الحرب التي قتلت اليمنيين."
ثم يتساءل أحمد ونقمته تكاد يراها القارئ بين السطور: "كلهم قتلة، لكن من يعيد ملاك وملكات ومحمد وأسماء إلى أخي؟ من؟ قولي لي من؟... لا أحد سيعيدهم، ولا أحد يبالي بما حدث لنا."
تهاني الأم
في قصة أخرى عنونتها المقطري: "لصوص ومنقذون"، تتحدث الكاتبة عن استهدف مليشيات الحوثي وصالح منزل المواطن عبده درهم القدسي في 23 أغسطس 2015 في منطقة المركزي بمدينة تعز التي تحاصرها المليشيات منذ سنوات. كانت هناك عروسة تستعد لزفافها هي ابنة اخت ربة البيت: تهاني محمد سيف القدسي. قتلت العروسة وقتلت ابنتا تهاني: مريم (18 سنة)، وسمية (15 سنة)، إضافة إلى حياة قاسم نعمان (50 سنة) زوجة عبده، وابنتاها أميرة (21 سنة) وسميرة (22 سنة).
كما دمر القصف مركز اتصالات تملكه أسرة القدسي واحترقت بضاعة قيمتها نصف مليون ريال يمني. سُرق منزل الرجل على يد من تقول الأم تهاني:
"إنهم لصوص الحرب. داس أحدهم جسد ابتهال (ابنة أخيها)، صرخت فيه: انتبه، تحتك البنت حية"، التفت إلي بفزع، توسلته لإنقاذنا.... لصوص الحرب الطيبون ينبشون معي، لولاهم لما أنقذنا أحد، لا أحد.... لولا لصوص الحرب لمُتنا جميعا تحت الأنقاض."
تقول أيضا: "عندما تكون المصيبة جماعية، لا تعرفين كيف تعزين نفسك. فقدت أختي أبنتها، وحياة قُتلت مع بناتها الثلاثة وتشرد أولادها. أنا فقدت ابنتي ولم يعد لدي سوى ولد، أصيبت زوجته في الحادثة وبترت رجلها، كانت حاملا حينها".
وتخاطب الأم المقطري قائلة: "لكن هل تؤمنين بالأحلام؟ إنها إشارات لا نلتفت إليها، لكن بعد حدوث الفاجعة نتذكر تلك الإشارات...... قلوبنا حزينة وأرواحنا مكسورة. معاناتنا محفورة في وجوهنا، ستكتبينها أنت. أنا لا أستطيع وصف نكبتي، اكتبي ما ترينه في وجوهنا."
حكايات المقطري هي قصص يمنيين طالتهم فظائع الحرب التي ربما لا يد لهم فيها سوى أنهم ولدوا وتربوا وعاشوا في هذا البلد الذي يصارع الطائفة العظمى من ساكنيه الموت طمعاً في الحياة.
ريهام الصديقة
في نهاية حكايات صاحبة رواية "خلف الشمس" -الصادرة عن المركز الثقافي العربي في بيروت عام 2012، والتي شاركت المفكر اللبناني الشهير فؤاد طرابلسي كتاب عن "جنوب اليمن في حكم اليسار" أيضا من منشورات دار رياض الريس في 2015-، تحكي عن صديقتها الناشطة ريهام بدر الذبحاني (32 سنة)، صاحبة مبادرة إغاثية في محافظة تعز؛ ريهام التي قتلت ورفيقها مأمون الشرعبي بقذيفة أطلقها الحوثيون على المنطقة الشرقية في مدينة تعز ظهر الخميس الثامن من فبراير 2018؛ حينما كانا يوزعان المواد الإغاثية على الأسر المحاصرة في المنطقة.
تناجي المقطري صديقتها: "لقد قتلتك الحرب كما قتلت آلاف الأبرياء في هذه البلاد الحزينة. لم يدر، حتى في كوابيسي، أني سأكتب عنك في هذا الكتاب الذي انتظرته طويلا، كضحية، لا كصديقة.
ثم تتذكر الروائية آخر ما بينها وبين صديقتها: "تُلحّ عليّ الآن، ذكرى أخيرة لنا معاً ونحن نقطع طرقات المدينة الموحلة، نمر على أنقاض البيوت المدمرة الخالية من أهلها، ننصت إلى أحزان الغائبين، ثم ونحن نطرق الأبوات الموصدة على قهر أمهات ينتظرن أبناءً لن يعودوا".
وتختم المقطري رسالتها إلى صديقتها ريهام قائلة: "لقد قتلتك الحرب ولم تترك فيَّ سوى خرس طويل، يحدق في غيابك."
فيديو قد يعجبك: