إعلان

بالصور- في أمريكا.. ليبي يرعى صغار على شفا الموت

06:04 م الأربعاء 05 يوليه 2017

كتب-إشراق أحمد:

عشقه للأطفال من نوع خاص؛ اعتزم أن يكون أبًا، فصار والدًا لـ80 طفلاً، لكنهم ليسوا كغيرهم، هم للموت أقرب، لفظهم الجميع بعد أمهاتهم، لأن لا حاجة لهم بطفل ميت. ليس جميع الصغار محبوبين؛ حقيقة صادمة لمسها محمد بزيك، رق لها قلبه، وقرر أن يحتضن هؤلاء المرضى الصغار، فكان ذلك قدره الذي سيق له ابن ليبيا قبل 39 عامًا حين قصد أمريكا؛ أن تتلقف يداه "أطفال الموت" بالرعاية، تمنحهم الحياة ليومٍ أو أعوام، ثم تربط عليهم التراب ملقيةً السلام على ضحكات لم تجد لها متسعا في القلوب.

كان ذلك عام 1979 حين سكن بزيك مدينة كاليفورنيا، عام مر على قدوم الليبي الحاصل على منحة لدراسة الهندسة الإلكترونية إلى أمريكا، بالجوار كان جيران، شابة أمريكية تدعى "ضانّ" تسكن مع جديها، طالما عج منزلهم بالصغار، لكنهم مختلفين "عندهم حضانة للأطفال اللي لديهم مشاكل صحية وخلاف ذلك هم أيتام". عرف الشاب العشريني لأول مرة ما يسميه الأمريكان "الآباء الحاضنين" وما يعرفه هو كعربي بـ"كفالة طفل".

انجذب بزيك لفعل العائلة الأمريكية، لاسيما أنه مرتبط بالصغار "عائلتي كانت كبيرة 10 أطفال أنا أكبرهم"، وكذلك ارتبط بابنتهم "دون". تزوج بزيك عام 89 من "شروق" كما سُميت بعد إسلامها، تعاهد الزوجان أن يستكملا ما اجتمعا عليه، ترددا سوياً على المستشفيات، رأى القادم من ليبيا كم من السهل أن يُترك طفل، وينفر الجميع منه لأن حالته الصحية ميؤوس منها، يقول بزيك إن "ما حدا هنا ياخد هؤلاء الأطفال ما حدا يبغيهم.. حتى أن الناس ما تحب تتكلم عن الموت". 

1

فتح بزيك وزوجته منزلهم للصغار الذين أفتى الأطباء أن ما بينهم والموت سوى خطوات تقدر بأيام وشهور على أقصى تقدير. 80 طفلاً من أصحاب الأمراض المزمنة تكفل بهم المهندس الليبي، منذ الثمانيات وحتى اليوم، منهم الملفوظين من آبائهم، ومَن احتضنته يداه وهو بلا اسم "فقط مسجل في الشؤون الاجتماعية ولد أو بنت"، غير أن الغالبية كانوا أيتام، بينهم 40 صغيرًا ممن جزم الأطباء أنهم على شفا الموت، الذي خطف منهم 10 أطفال إلى اليوم.

"في اللي عاش 6 سنوات واللي عاش 8 أيام" يقول "بزيك" عن أبنائه العشرة الراحلين، ليس هينًا على النفس أن ترعى طفلا ثم يفارق الحياة حتى لو كنت على علم، اهتز الرجل مع المرة الأولى، كانت طفلة مكسيكية، تعاني تشوه في العمود الفقري "كان خارج جلدها وتحتاج لأنبوب تغذية ورعاية خاصة"، قال الأطباء إنها لن تعيش أكثر من 9 شهور، غير أنها مكثت 3 سنوات ونصف، قبل أن تتوفى فجأة، كما يصف الرجل الستيني.

تناول الجميع العشاء، ذهب بزيك للاستحمام، فيما بقيت زوجته برفقة الصغيرة "خرجت لقيت إسعاف وبوليس ومطافي"، توفت الطفلة في مكانها على الأريكة وبائت محاولات "شروق" بالفشل لإنقاذها رغم وصول الطوارئ. 

2

يوقن "الأب الحاضن" أن الله كتب على الإنسان الحياة والموت، حدد ميقات ذلك ومكانه، وعاجلا أم آجلا فسوف يقع القدر، لكن الحزن فطرة بشرية وبزيك ليس عنها ببعيد "3 أيام كنت أبكي عليها". لم ينس الفراق الأول لأحد أطفاله، كما ظل على العهد مع باقي الصغار "أنا مش بحتضن طفل وخلاص إنما بعامله كأنه ابني أو بنتي".

كأي أب يقر عينه بأبنائه، يعكف "بزيك" على رعاية الصغار، يربت عليهم، يشعرهم بوجود أحد جوارهم، وإن كانوا لا يروا أو يسمعوا، يحرص على التقاط الصور لهم، ينسقها في ملف يصنعه لكل طفل "أضع فيه تاريخ حياته" كما يقول، يضم إليه ملابسه، وخصلة من شعر الصغير، أشيائه كلها ولو قصاصة بها "شخبطة" يحفظها في كتاب، فإن التقى يومًا بأسرة الطفل أعطاهم إياه، كما حدث مع الطفلة المكسيكية.

رغم عدم تحدثهما الإنجليزية، غير أن والدىّ أول طفلة تتوفى استقبلا بامتنان الملف الذي أعطاهما بزيك، الفقر منع الأبوين من الاحتفاظ بطفلتهما المريضة، وكانت تلك المرة الوحيدة التي رأى فيها الأب الليبي أهل لأحد أطفاله.

لحضانة الأطفال في أمريكا ظهير رسمي، لزم حصول بزيك على رخصة من وزارة الشؤون الاجتماعية في ولاية لوس أنجلوس عام 89 للقيام برعاية الصغار، ضمانًا لحق الطفل من ناحية، ومعاونته من ناحية أخرى، يقول الرجل الليبي إنه لم يجد عائقًا في إنهاء الإجراءات لكونه عربي، ومن ثم بات وصول بزيك للأطفال عبر المسؤولين في الوزارة، الذين أخبروه أنه "البيت الوحيد في الولاية بياخد أطفال وهم عارفين أنهم ممكن يموتوا".

3

التكفل بطفل صاحب مرض مزمن أو نادر ليس يسيرًا، لا يحتاج فقط إلى الرعاية الإنسانية، بل مصاريف لا تتحملها طاقة بزيك. "علاج طفل واحد من الممكن أن يكلف الدولة نحو مليون دولار في السنة" يقول الأب الحاضن، محصيًا عدد مرات تردد أحد الأطفال على المستشفى "167 مرة خلال 8 سنوات عمره"، فيما تبلغ مصاريف الدفن 10 آلاف دولار كحد أدنى، لذلك تتدخل الجهات الرسمية، فأي صغير تخلى عنه أهله "يعتبرونه طفل الحكومة" حسب قول بزيك، الذي يشير إلى أن "كل طفل له محامي وأخصائي اجتماعي"، لذلك لا يجوز قانونًا التشهير بأسمائهم أو صورهم.

لا يوجد عدد معين للأطفال يرعاه بزيك، يعتمد الأمر على خلو المنزل، ففي بعض الأوقات استقبل ثلاثة صغار معًا، لكن بالوقت الحالي يلازم تلك الصغيرة، التي احتضنها من المستشفى رضيعة بعمر 6 أسابيع، قال الأطباء حينها إنها لن تمكث أكثر من 5 أسابيع أخرى لأن "معندهاش مخ تقريبًا" حجم حبة اللوز قدروا وجوده، لتمر 6 أعوام ونصف ولازال الرجل الستيني يهدهد الصغيرة الفاقدة للسمع والبصر، يتأكد من آلة التغذية الخاصة بها، يرافقها إلى المستشفى، فيما بات يتعامل الأطباء مع حالتها بمنطق "كل يوم تعيش فيه هو معجزة".

لم تكن طفلة بزيك الحالية أول مَن خيبت ظن الأطباء، يتذكر الرجل الستيني الصغير المكسيكي، الذي جاءه عام 2000 بلا هوية، فناداه "عمر"، ليحيا 6 سنوات و4 شهور قبل أن يدفنه عام 2006. يحفظ الأب الحاضن ملامح طفله باللفتة "عيونه كانت جميلة خضراء اللون ورموشه طوال حتى أن الممرضات كانت تحسده عليها لكنه ما كان يرى ولا يسمع".

4

تجربة موت الصغار أعانت بزيك على تلقي صعاب أحاطت به؛ ودع الأب الليبي زوجته عام 2015 بعد معاناة مع مرض الصرع، وبعدها بنحو ثلاثة أعوام دفن ابنه الثاني وهو ذي ستة أعوام "بسبب ولادته المبكرة حدث عنده مشاكل في الرئتين"، وارى اثنين من أسرته التراب، بعد سنوات منذ عام 2000 عكف فيها على ميزان المنزل، كان يرعى زوجته، وطفليه بينهما معاق جسديًا -يبلغ الآن 19 عامًا- ويحتضن طفلين أخرين.

عزف بزيك عن الشارع إلا قليلاً، كما ترك عمله الهندسي منذ مرضت زوجته، أضحت "حضانة الأطفال" شاغله الإنساني والرسمي "شؤون الولاية تعطيني 1600 دولار في الشهر"، لكن مع توفير ممرضة تعمل معه قبل عامين، صار ثمة متنفسًا، مما جعله يخرج للأنظار، خاصة أنه لا أحد كان يعلم بما يقوم به الرجل الستيني حتى نوفمبر 2016.

في أحد المحافل المقامة بكاليفورنيا لجمع التبرعات للأطفال، تم دعوة بزيك للحضور، على منصة المتحدثين أخذ يُعدد مَن يسمى بـ"شريف" الولاية –رجل أمن- ما يقوم به الليبي المقيم في أمريكا، كان ذلك في حضور رئيسة الشؤون بالولاية، التي رشحته للحديث إلى جريدة أخبار لوس أنجلوس، التي نشرت عنه في فبراير المنصرف، بعدها صار الإعلام يتوافد على منزل بزيك، ليتحدث الأب الحاضن حتى الأن مع قرابة 20 وسيلة إعلامية أمريكية وعالمية، حسب قوله.

"أنت مجنون.. تاخد أطفال بتموت" متعجبين صار المحيطون يسألون بزيك بعد معرفتهم بسره، فيجيبهم "وليش ما أخدهم.. إذا ما خدتهمش ما في حدا بياخدهم"، تغيير وقع في حياة الأب الحاضن، ليس فقط بمنحه شهادات التقدير والجوائز، وصولاً لوصف البعض له بـ"ماما تريزا المسلمين"، وعمل إحدى المدرسات قصة عن لحيته الكثة، تخبر تلاميذها إن "بزيك لحيته مليئة بالحب"، يقول الرجل الستيني أنه لمس تحسنًا في الصورة الذهنية للمحيطين به عن العرب والمسلمين، البعض أخبره "ما كنا نعرف أنكم بهذه الإنسانية".

5

خرج بزيك للإعلام وما كان يفعل، لولا ما استشعر يوم أن لزم المستشفى لخمسة أيام لإجرائه عملية جراحية بعدما مرض بسرطان القولون، لم يكن لديه أقارب يداومون زيارته والبقاء معه في تلك اللحظة العصيبة "وقتها حسيت بنفس شعور الأطفال اللي أهلهم سايبينهم.. أنا رجل بالغ أشعر بخوف رهيب ما بال هؤلاء الصغار"، كان ذلك في 20 ديسمبر المنصرف، قبل يوم واحد من عيد ميلاده الـ62.

27 عامًا منذ بدأ بزيك رعاية "أطفال الموت"، ليس كلها مغلفة بالمشقة والحزن، أوقاتًا حملت له الحياة لحظات امتنان تعينه على المواصلة؛ نداء "أبي" الذي يردده صبي رعاه صغيرًا، وأمد الله في عمره بعدما وُلد "مدمنًا" نتيجة تعاطى والدته المخدرات والكحول وقت الحمل، أصبح شابًا يافعًا رغم إعاقته، يمسك بيد طفلته بينما يزوره بزيك بين الحين والأخر، وذاك العناق الشديد الذي فاجأته به شابة في الثامنة عشر من عمرها، مصحوبًا بكلمات عرفان، بعدما عرفت أنه احتضنها حتى بلغت الثالثة من عمرها قبل أن تتبناها سيدة أمريكية، حينها يتملك الرجل شعور الفرحة "وأن ربنا استخدمني لأجل هؤلاء الأطفال الذي لم يكن يرغب فيهم أحد".

في غرفة المعيشة بمنزله في كاليفورنيا يداوم بزيك البقاء مع طفلته الحالية وابنه آدم، يصحب كل منهما في مواعيد أطبائه، يطمئن أن الأمور تسير على ما يرام، ويمضى لقضاء بعض المشاوير وقت وجود الممرضة مع الصغيرة، ثم يعود لواجبه في حملها والبقاء معها حتى المساء، ليضعها على الأريكة وبالجوار يطرح جسده ليناما "راسي في راسها"، يخشى أن يؤدي عدم قدرتها على بلع لعابها إلى اختناقها.

هجر الرجل الستيني فراشه منذ جاءت الصغيرة قبل ستة أعوام ونصف، وفي الصباح يعاود حضنها وطمأنتها لوجوده بالربت على يدها، لا يغادره التفكير في 6 آلاف طفل يحتاجون الرعاية في ولاية لوس أنجلوس، بينهم 600 طفل لديهم أمراض ميؤوس منها، ود بزيك لو استطاع أن يحتضنهم وترعاهم يداه.

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان