"فاقد الشيء يعطيه".. عزة حُرمت من والديها فعمِلت كأم بديلة
كتبت-دعاء الفولي:
مع ثماني فتيات يتيمات تعيش عزة مراد في مدينة أكتوبر. ترعاهن، تحاول الجمع بين رِفق الأم وحزم الأب، ترسم لهن أحلاما جديدة، تُخفف عنهن مرارات الفقد، فيما تخوض معركتها الخاصة؛ بين أبويها المنفصلين، البحث عن مكان مضمون للإقامة، واستكمال الدراسة.
عندما كانت صغيرة، راقبت عزة ذات الأربعة وعشرين عاما، الفتيات الذاهبات للمدرسة من خلف نافذة المنزل، تابعت تفاصيلهن التي حُرمت منها "في المرحلة دي من حياتي مكنتش عايزة إلا أب وأم يهتموا بيا ويعلموني"، تعلم أن أكبر عائق منعها عن التعليم، هو عدم وجود أسرة حقيقية تحيا في كنفها.
عاشت عزة برفقة الجدة والجدة "ولأن الحالة صعبة اضطريت أشتغل مع دكتورة جنبنا 7 سنين". حصلت على 120 جنيها شهريا مقابل خدمتها "كنت باكل وأشرب بس مش مبسوطة.. عايشة وخلاص"، حتى جاءها المدد؛ عُرض عليها الانضمام لفصول محو الأمية "حسيت إن طاقة النور اتفتحت ليا".
كانت الشابة على قدر المسئولية؛ أنهت فصول محو الأمية، التحقت بالثانوية، ثم تكفّلت إحدى السيدات بمصاريف كلية الخدمة الاجتماعية في جامعة أسوان، على أن تدفع عزة مصاريف الكتب والسكن.
حتى عُمر السابعة عشر عاما، لم تُقابل ابنة الأقصر والدها "لحد ما حد من قرايبنا ودّاني سلمت عليه"؛ استقبلت أبيها بابتسامة وغُصّة "مكنتش قادرة أقوله يا والدي. مش عارفة إزاي قدر يسيبني كل دة من غير سؤال". منذ الصغر اتخذت الفتاة الصعيدية التسامح دستورا "لو شيلت في نفسي هموت"، لكنها وقد غفرت لوالدها لم تستطع البقاء معه "مراته مبتعاملنيش كويس، وأمي متجوزة"، ألحّ عليها الأبوان كي لا تذهب للجامعة؛ فرفضت تنفيذ الأوامر، ومع الوقت استسلم الوالدان للأمر الواقع.
عانت الشابة من افتقاد مظلة الأمومة، تخبطت بين حنان الجدة وقصر يد الأم "ظروفها دايما باعداها عنّي"، إلا أنها ظلت على اتصال بها عملا بمبدأ "إني لو مليش خير فيها مش هيبقى لي خير في حد".
كانت تدفع عزة 150 جنيها مقابل السكن الجامعي، لذا عملت بالتوازي في كافتيريا "كنت باخد 25 جنيه في اليوم". وبينما ترى الشابة صديقاتها يُرفهّن عن أنفسهن "اتعودت اعمل نفسي عبيطة عشان أوفّر في المصاريف"، اكتفت أحيانا بعدة ملاعق من العسل الأسود في الصباح لتسد جوع اليوم، تحلّت بالصبر الجميل، غير أن الخذلان ظل يزورها كلما رأت زميلة تتصل بوالدها أو والدتها لتطلب مالا، وقتها تيقّنت أنها منزوعة السند.
3 أعوام مرّت على قدوم الشابة للعاصمة، حيث جاءتها فرصة استكمال الدراسة بدبلومة تربوية. في الأشهر الأولى عُرض عليها العمل كأم بديلة بدار أيتام "مكنتش فاهمة الوظيفة ولا بيعملوا إيه، بس كان المرتب 1350 جنيه ودة مبلغ كبير"، عدم وجود سكن دفعها للقبول، حيث ضمنت الإقامة بصحبة الأطفال.
تخبطت ابنة الصعيد حتى أتقنت العمل، صار عليها احتضان خُدّج لا تتجاوز أعمارهم عدة أشهر، استمرت ساعات عملها من الليل وحتى الصباح؛ غالبها الإرهاق،كاد صبرها أن ينفد، كانت تخلو لنفسها لاستذكار الدبلومة بعد نوم الصغار، لم تتخط ساعات قيلولتها في اليوم أكثر من ساعتين، أوشك عقلها على التوقف؛ فقررت الانتقال لدار جديدة مع الإبقاء على المهنة.
ذابت عزة في تفاصيل عملها "حسيت إن ربنا سخّرني للولاد دول عشان انا اتحرمت من أمي وأبويا". حين انتقلت لدار جديدة تحسّن الوضع "بقيت أشتغل الصبح وعندي وقت لدراستي"، إلا أنها تلقّت عبئا زائدا "بقيت مشرفة على بنات في سن صعبة"؛ اتخذت سبيل اللين والشدة أحيانا، صادقت الفتيات، أفشين لها أسرارهن "البنات لسة أعمارهم 10 و12 سنة بس لما يكبروا هيحسوا إني تعبت عشانهم ودي حاجة أفتخر بيها". ودّت الأم البديلة لو وجدت يدا تُربّت على كتفها أثناء الصغر.
مبلغ أحلام عزة كان الحصول على شهادة الثانوية "لما لقيت نفسي بنجح طمعت في التعليم"، باتت المعرفة ملجأها من الفقر والعوز، لم تبتغِ تكرار مأساة والدتها وتقيدها بالزوج؛ عصت أعراف الصعيد، انهالت عليها نظرات الغضب "بيلمّحوا عليا عشان بسافر برة الأقصر أتعلم.. وانا لو عايزة أمشي في الغلط كنت عملت كدة من زمان".
مازالت تتصل بوالدتها يوميا، وزاد فخر الأم بعدما فازت الشابة بجائزة في المنتدى العربي للمتحررات من الأمية، الذي تُشرف عليه جمعية "المرأة والمجتمع".
"من كام كلموني في الجمعية وقالولي كسبتي 5000 جنيه وروحت اتكرمت". لم تصطحب أحدا معها "على أد ما كنت فخورة بنفسي بس حزنت إن محدش من أهلي معايا"، لم تطرح الفكرة على والدتها "جوزها مش هيوافق كدة كدة"، أما والدها فكان خارج الاعتبار.
رغم أن المبلغ المالي ليس ضخما، إلا أن عزة نسجت منه حلما صغيرا "اقترحت عليهم أدفع الفلوس في مقدم شقة وتتأجر للطلبة وأسدد تمنها وبعدين تبقى بتاعتي"، يشغلها ضمان المأوى، إذ لا تنوي البقاء داخل الدار للأبد، تنتظر امتلاك حياة خاصة، مع وعد بالسؤال عن فتياتها اللاتي ربّتهن على عينها.
تطمح عزة لمزيد من العلم "عايزة آخد دبلومة تمريض". والآن يتجسد هدفها في شقيتها ذات الـ18 عاما؛ تبتغي إعانتها على التعليم، تُغدق عليها بالنصائح، وتقتسم مشاعر أمومتها بينها وبين فتيات الدار "دلوقتي أختي بقت تقولي انا هكمل تعليمي زيك وهدخل الجامعة".
فيديو قد يعجبك: