إعلان

مساء تزينه نجوم البحر .. "قصة قصيرة"

د.هشام عطية عبد المقصود

مساء تزينه نجوم البحر .. "قصة قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 15 سبتمبر 2023

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

أيام كثيرة وأعوام مرت منذ كان طفلا وأدرك ذلك وقد صار الآن لا يدري عددها، كانت كافية لتؤكد لديه مقولة قد يرددها البعض عبورا بينما يعرفها دوما حديثا ذاتيا مطمئنا: "أن اتبع حدسك"، يأتي صوت الموج عزفا رائقا يتلقاه بمحبة، مفصولا تماما عن صدى شاحب لبعض أصوات تنطلق من مقهى قريب، وكأن البحر فى هذا المساء المتأخر يفرد مساحة أحباله الصوتية عن آخرها وهو يعبر الطريق فى اتجاه الرصيف القصير المطل على أول الشاطئ والذى تبلل سطحه بالرذاذ.

أضواء بدت من هناك بعيدة كدوائر صغيرة ثابتة تكمن دون حركة فى عمق البحر، يمشى بمحاذاة الرصيف من الخارج بحثا عن موضع ملائم ليجلس، ينظر نحو الجهة المقابلة حيث دكان البقالة المفتوح تضيء واجهته لمبة نيون تلتصق أفقيا بجانب الجدار فلا تبدد من الظلمة سوى مدخل المكان، بينما يفرد المساء مظلته مسترخية على امتداد البحر وحيثما ذهبت عيناه، يسير نحو الدكان، يشترى بسكوتا متاحا، كان يستشعر شيئا من جوع آخذا فى ازدياد فلم يستسلم له وقرر أن يسكته مؤقتا ومفضلا أن يعود إلى رصيف البحر ليواصل المشى مستمتعا ببرودة أحسها ودودة .

فى هذه المدينة الصغيرة المطلة على البحر، يحس بأنه تواجد هنا منذ زمن بعيد لا يدركه تحديدا، تلتصق به مكانا كأنها مستقر مولده المحبب، يظهر ذلك من إحساسه بألفة الشوارع وبتعرجاتها المفضية إلى البحر، وذلك الصوت المنغم الودود لبائعى السمك والخضروات القلائل وهم يهلون فى الصباح بينما يقودون فرادى عربات خشبية صغيرة داخل تلك الشوارع، ثم يتجمعون عند ناصية لعدة ساعات نهارية ويرحلون.

المدينة الصغيرة صامتة وقورة فى الليل، يذهب بعض قاطنيها إلى مقاهى قليلة فيظهرون عليها كأنهم فرادى متناثرين يسامرون مساحات فراغها لتطمئن، وحيث تصير المقاهى أكثر جمالا كلما أوشك رصيف البحر أن ينتهى، وهنا يظهر مقهى أخير حيث يمكن أن تجلس ملامسا بقدميك الموج.

أيام له هنا تمر سريعا فى انشغالات أعدها تأخذ كل وقت النهار، ثم قراءة فى كتابين إصطحبهما معه يقتطعان بعض ساعات الليل وحتى يدخل فى نوم سرعان ما يحل عليه ودودا.

يتذكر كثيرا هنا كل ما أحب، ويستعيد أشياءه التى عرف وواظب على إبقائها زاد وحية فى الذاكرة، يفكر كيف كان دوما وهو طفل يرى نفسه معلما فى مدرسة فى قرية صغيرة، بعيدة تماما لكنه أصر دوما أن يراها فى خياله ساحلية، تمنى أن يعيش هناك وحيث يمكنه أن يمنح شيئا رآه وقدره كبيرا ومضيفا.

عزم حينها أن يأخذ معه كل ما تجمع فى مكتبته الصغيرة التى صارت تكبر كل يوم، ويذهب بكل ذلك إلى المدرسة التى سيعمل بها معلما، يقرأ مع التلاميذ الصغار ويشاركهم دهشتهم بالعالم .

كثيرا ما فكر كيف سكنه ذلك الحلم واستقر، وذات مرة وبينما يتفحص بعض الصور العائلية، أدرك من أين بدأ، كانت من تلك السعادة العظيمة التى تملأ وجه والده وهو يحكى عن سنوات ما بعد تخرجه وتعيينه معلما فى إحدى قرى الصعيد البعيدة أوائل ستينات القرن الماضى، كان يجلس إلى جواره طفلا فى مساءات كثيرة يستنطق أبيه ليحكى ما قد يكون سمعه منه قبلا وأحبه، ويطلب منه تكرار تلك الحكايات عن القرية الصغيرة التى عند حافة الجبل، التى لا يصلها القطار ولا الكهرباء، عن يوميات المدرسة والطلاب وعن الطعام وعادات الحياة ورحلات السفر الطويلة، وعن أغانى المنشدين فى ليالى الموالد الممتدة بطول المساءات، عن أهل القرية كبرائها وبسطائها وحكاياتهم وطقوسهم وأساطيرهم، لم ينظر لهذا الأمر أبدا باستخفاف، ومع مرور كل تلك السنوات لم يتعامل معه قط كشيء يستوجب النسيان.

تشتد برودة الجو وتتصاعد أصوات الموج وتتبدى السماء أكثر وضوحا، يضع كيسا بلاستيكيا على إحدى بلاطات الرصيف التى بللها الماء يجلس ثم يخلع حذائه، يمد قدميه لتلاقى دفقات قدوم الموج نحوه بينما على امتداد مساحة السماء التى تظلل عمق البحر تتراص النجوم نقاطا مضيئة ودودة.

إعلان

إعلان

إعلان