إعلان

ما أفلته النسيان.. "قصص قصيرة"

د.هشام عطية عبد المقصود

ما أفلته النسيان.. "قصص قصيرة"

د. هشام عطية عبد المقصود
08:31 م الجمعة 24 يونيو 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الضوء الأول ..

عندما تختلط شرائط الليل الرمادية ببياض واهن بازغ مقتحم معلنة عن قدوم أول ساعات نهار يوم جديد، يصحو على مهل منتبها حين يأتي الصوت رائقا عبر جهاز الراديو الرابض في مكانه بجوار النافذة المستطيلة الممتدة بعرض حائط الصالة المطلة على الشارع المتسع، وحيث يشف صوت محمد فوزي في مناجاته: "ما خاب عبد سألك أنت له حيث سلك"، وكأنه إعلان يومي مألوف محدد التوقيت بانطلاق قطار تفاصيل اليوم الجديد، تلك التي ستبقى قابعة في الطبقات الأولى من الذاكرة لن تبعده أو تمحوه الأحداث والتذكارات المتراكمة ولا سهو السنوات إذ يمر قطارها سريعا، ليتم رفع الأغطية الثقيلة بقوة دفع امتداد الأرجل في ذلك الصباح الشتوي، ومن بين أزرار البيجامة التي تمتد خطوطها طوليا يخترق جسدك دفقات موجة برد كأنما كانت تنظر خارجها وتجبرك -متثاقلا ومتلذذا- على أن تقبض كفيك على بعضهما مستجلبا الدفء وأنت متجه نحو أكواب الشاى المتراصة تتصاعد منها أبخرة ترسم أشكالا سريالية مبهجة تزين دورانها الزجاجى العلوى وإلى جوارها بعض الأطباق المتناثرة .

الظهيرة ..

لطالما لم تعجبك ساعات الظهيرة، لم تألفها ولم تطب لك وقتا، كأنها حد فاصل بين شيئين يبرر وجوده بثقل ساعاته ومرورها الراكد، مرحبا بانتقال الظل صانعا ما عرف بمواقيت أوان سويعات العصر وهو يسحب ظله محتلا مواضع الشمس، هادئا جالبا معه شغف القراءة وتأملات تسطر بها حواف صفحات الكتب التي تحب، طالبا تقرأ ما أتيح لك مستزيدا، ثم تتوقف مبهورا عند حكايتين أو عملين تحبهما كثيرا وتضعهما في مكان مختار يتيسر الوصول إليه ومن بين كل مجموعة كتب توفيق الحكيم التي أحضرت معظمها فرادى من البائع الكهل الذي يفترش جانب بوابة الجامعة الرئيسية، "زهرة العمر" و"سجن العمر". الكتاب الأول سيرة ذاتية لسنوات مبكرة ساحرة المحتوى بتفاصيلها وحيرتها التواقة بحثا عن الطريق، ثم الآخر كتاب رسائل تحمل رائحة الغربة والبحث عن شىء ما غائب وبعيد يرسلها توفيق الحكيم إلى صديقه الفرنسي أندريه ويقدم لها ببعض ما يؤرخ سنواتها وسياقها.

في فترة أول الغروب يكاد عبد الوهاب أن يجعلك محلقا شفافا وهو يأتي عبر إذاعة أم كلثوم في موعده اليومي المعروف "كل دا كان ليه"، تسأل يا الله ما كل هذا الشجن الممتزج في لحن هذه الأغنية؟، يخاطب شيئا ما لم تدرك كنهه قط، يخايلك حلما وخاطرا غير محدد المعالم، لم يبهرك كثيرا غناء عبد الحليم بحزنه ورومانسيته المفرطة، تبحث عن فضاء متسع وهو يصنع دراما ويخاطب شخصيات محددة محضة، ولازال عبد الوهاب وحده قادرا على تجديد ذلك الشغف فى الغناء، وهو يأخذك معه في همساته الحائرة "يا منيةَ النفسِ ما نفسى بناجيةٍ" .

"عندما يأتي المساء" ..

تستقبله على مهل ببداياته التي مازالت تحمل بقايا صخب البشر بعد أن أتعبهم التفكير وهدهم الانتظار والإنقضاض والتطلع والهزائم والانتصارات التي تعيد دوران نفسها بتفاصيلها مع بدء يوم جديد جديد، ثم أبدا لا يتوقف شىء، هو التدافع قدرا ومصيرا تدفع عجلته خطيئة نسيان بشرى كبير يمضي ويظلل الجبين، ثم يصفو الليل، تضيء بهجتك حين تنصت إلى أم كلثوم وهي تغني "أقبل الليل"، دوما تسأل هل تصلح لتكون هذه رسالة المساء هدوءا إلى الكون، ودون كثير من صخب أو أسئلة مكررة؟.

آثار "سيزيف" ..

يأتي قادما من الشارع المرصوف البعيد، ومنحدرا نحو بيته عند تلك المدرسة القديمة، والتي اعتلت شرفاتها أتربة شجار الطلاب اليومي، متعبا، متشبثا بطرف جلبابه، يمر في ذات الموعد كل يوم، وفي نهايات المساء، يتكئ على سنواته الفائتات، التي تؤرخها خطوط وجهه، وقد يلقى سلاما عابرا على صاحب الدكان الصغير، ثم يمضي ولا ينتظر حتى يرد عليه السلام، يستدير قليلا مستندا إلى حائط المقهى، فيطلب من الصبي كوب ماء، يبلل شفتيه أولا ثم يشرب، يعلو صوته واهنا متوسلا، وهو يبعد صبية يتقافزون حول عربته الخشبية، ثم ينحني قليلا ليمسك ذراعيها الممتدتين ليسحبها ويمضي بها.

وقع وهو يجر عربته، وتناثرت بضاعته، أكواب زجاج رخيصة مغلفة بأوراق الصحف، انحنى في سكون غامر ليجمع ما تكسر، بينما التف حوله الصبية الصغار يجذبون اليدين الخشبيتين للأمام فيعيدون وضعية استواء العربة ويجمعون معه ما قد وقع، ينظر متأملا نحو ما تناثر على الأرض من بقايا كسر الزجاج، ويعيد ترتيب ما بقي سليما على سطح العربة، معتمدا على ما ينساب من ضوء عمود النور المجاور، ثم متكئا على صمته وشاحبا، يعاود سيره ليغيب في ذلك الشارع البعيد، هناك.

إعلان