إعلان

اللغة العارية في «أقفاص فارغة»

د.ياسر ثابت

اللغة العارية في «أقفاص فارغة»

د. ياسر ثابت
07:00 م الأربعاء 15 يونيو 2022

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

نحنُ جارحُون لأنَّنا مصقولون بالألم.

في سلسلة من الانتقالات المجهدة، والحيوية في آنٍ معًا، تستوقفنا تلك الشجاعة الفائقة لفاطمة قنديل في «أقفاص فارغة» (الكتب خان، 2021) وقدرتها على المكاشفة والسرد العاري لذكريات ومشاهد من حياة شخصية وعائلية.

وبغض النظر عما إذا كان هذا عملًا روائيًا أم سيرة ذاتية، أو حتى رواية سيَّرية، فإن بوسعنا القول إننا أمام نص مكتوب بإحكام ومكاشفةٍ شفيفة وجريئة، حتى إن عذاباته لن تغادرك بسهولة بعد الانتهاء من القراءة.

في رحلة تأمل اللحظات الأكثر رسوخًا في الذاكرة، تحاول فاطمة قنديل التصالح مع الألم، والتحرر من الثقل الذي تنوء تحته. رحلة التداوي أو التعافي ليست سهلة، خاصةً أنها قررت المصارحة التي تخيف كثيرين.

إنها حاضرة في قلب المشهد، وجوهر النص، بدون مواربة، رافضة التمويه عبر لعبة ضمير الغائب!

«اليوم أخبرت زملاء لي في العمل يدرّسون النقد الأدبي، ويكتبون روايات تجارية: «أنا أكتب مذكراتي»، نظر لي أحدهم مستنكرًا: «لا.. لا.. حاسبي». والآخر؛ صاحب الرواية التجارية، قال لي: «اكتبيها بضمير الغائب!» ظللت طول اليوم أضحك من النصيحة الأخيرة، بضمير الغائب؟! أنا أريد أن «أحضر» كما لو أنني كنت غائبة دائمًا، الحضور الكامل هو كل ما أحلم به، اليقظة، التي لا تفوت ضوءًا واحدًا في جوفي إلا حدقت فيه، حدقت فيه حتى يتلاشى، كعيون الميدوزا، لا أريد سوى أن أمسخ كل الذكريات إلى أصنام، ثم أكسرها، ثم أكنس التراب المتبقي منها، حتى ولو كنت، أنا نفسي، صنمًا من بين كل تلك الأصنام» (ص 18-19).

يمكن أن نختار منطلقين أساسيين لتناول هذا النص الأدبي، أولهما هو تفكيك العائلة. لنتأمل معًا هذا السرد الموجع:

«أفكر بشراء صينية جديدة آكل عليها، الصينية البلاستيكية الصغيرة، التي أضع فيها الأطباق أصغر مما يجب، ولا بدَّ أن يظل طبق من الأطباق مائلًا، نصفه داخلها، ونصفه الآخر في الفراغ، مهددًا دائمًا بالسقوط، أيضًا؛ الورود - السخيفة أصلاً- التي لم أتأملها، وأنا أشتريها على عجل، بهتت ألوانها، وبدت كما لو أنها متسخة طوال الوقت، مهما غسلتها، صحيح أنها من النوع الرخيص، لكنني من الممكن أن أشتري واحدة جديدة رخيصة، مثلها، ولن ترهق الميزانية؛ بسعر علبتي سجائر، أو ثلاث زجاجات من البيرة، المهم أن تكون جديدة، وأن تظل جديدة، ولو لشهر».

«لست أستخدم الصينية لأنني أعيش بمفردي، أعرف أناسًا كثيرين، يعيشون بمفردهم، ولديهم منضدة صغيرة للطعام، يمسحونها كل يوم، وأحيانًا، يضعون عليها الورود، وقنينتي؛ الكاتشاب، والمسطردة، وقنينتي؛ الملح، والفلفل. لم أفعل هذا أبدًا، ولم نفعل، كذلك، في بيتنا القديم، كأنه «طقس» مقدس، أن يضع أحدنا الطعام على الصينية، ويمضي وحيدًا، ومنفردًا بها، «رمزي» في غرفته يستمع إلى الموسيقى، أو يقرأ كتابًا، ماما بعد عمل اليوم الشاق، تحمل صينيتها، أو تحمل الصينية لـ«راجي»، المنعزل دائمًا في غرفته، بابا يحمل صينيته ويجلس في السرير، إلى جواره الراديو، يُقلّب إذاعات العالم، وإلى جواره، بالطبع، زجاجة البراندي - غالبًا، يقرأ في رواية بوليسية بالإنجليزية، بعد أن سمحتْ له أمي بالشراب داخل البيت، «تجنبًا للفضائح»، كما قالت».

«لم تكن المسألة مجرد تضارب مواعيد، كلنا كنا موجودين، في الوقت نفسه، والصينية تتنقل من يد إلى أخرى. المتمرد الوحيد كان «راجي»، رغم عزلته الدائمة، أو ربما بسبب عزلته الدائمة، حين تأتيه «الفورة» كما كنا نسميها، كان يصر على أن نجتمع على المائدة، «مرة واحدة عايز أحس إني في عيلة!» (ص 19-20).

قرب النهايات، تحاول الساردة التخلص من الماضي الذي تركته وراءها في المنزل القديم: «كنت كمن يرتكب جريمة قتل، ويحرص ألا يترك بصماته، في أي مكان، قررت، كذلك، ألا آخذ معي شيئًا، الأثاث القديم فتحت الأبواب، ومنحته لمن أراد، سيصلحونه، بعد أن اهترأ، بعيدًا عني، وربما سكبوا فيه شيئًا من أفراحهم، فلا أعرفه، إذا زرتهم، قطعت كل صور أخوىَّ وخطاباتهما، بعنف، أسميته ساعتها: «الكراهية حين تتفجر»، محوت أثارهما، فعليًا، من البيت القديم، كي لا تلاحقني، كي لا تراوغني في بيتي الجديد، وتختبئ في أي شق، وتهاجمني في الليل، ولم أبق إلا صورة وحيدة لأبي، وصور عديدة لي مع أمي، حملت ملابسي الصالحة، وكتبي، سلمت للمالك الجديد المفتاح، وأغلقت الباب إلى الأبد» (ص 249).

هكذا نرى تفكك أفراد الأسرة، بقلوبهم الرثة الملأى بالألاعيب.

أما حكايات الموت فهي مروّعة في «أقفاص فارغة». قصص تقول لنا إننا قد نشتاق إلى الموتى، لكننا نختنق من رائحتهم.

موت الأب مدمن الخمر مثلًا، نطالعه كالتالي:

«نقله «رمزي» حين عودته إلى فراشه، حتى يأتي طبيبه المعالج، ظل هو، وماما، معه في غرفته، بينما انسحبتُ من المشهد. بعد قليل، حضر الطبيب، ومشى، حمله «رمزي» وماما في سيارة جارنا، وحكت لي ماما أن الطبيب قال: «الأمر انتهى، ساعات قليلة»، لكنهما، هي و«رمزي» قررا بذل محاولة أخيرة بالذهاب إلى مستشفى «هليوبوليس»، حين وصلا إلى هناك، أفهم «رمزي» طبيب الاستقبال أنه طالب في الطب، فجامله بالنزول إلى السيارة، ونصحه بالعودة، حتى لا «يتبهدل». قالت ماما إن كفه كانت تقبض على كفها، وإنها أحست ببرودة طوال الطريق إلى المستشفى، لكنها لم تُرد التصديق، وقال الطبيب: البقية في حياتكم».

«لم أكن أريد توديعه، لكنني لم أستطع الرفض، كنتُ قد رأيتُ ما يكفيني في تلك الليلة، رأيتُ ما لم يره حتى أخي، حين قبَّلته في جبينه، كما أشاروا عليَّ، رأيتُ عينيه تنظران لي، لكن ماما و«رمزي» قالا لي: «بابا مات، وعينه مغمضة، دي تهيؤات». لم أصدقهما، وبخاصة أنه بعدها بأيام ظل يدق على باب غرفتي، دقات ملحة، ومتوالية، حتىى استيقظت، وهرعت إلى «رمزي»، فزعة، أسأله: إن كان هو من دق بابي عند الفجر فنفى، وكذلك ماما، ظل يأتي إليَّ عدة أيام، أحيانًا في الحلم، بوجه يغطيه جير أبيض، وهو مرتدٍ كفنه، يكلمني من وراء الباب بنفس الكلمات المدغومة، التي أراد أن يقولها لي، وهو يُحتضر. لم أفتح له أبدًا، حتى رحل للأبد، ولم يعد يزورني، ولو مرة، طيلة حياتي، وحتى الآن» (ص 77-78).

أما الأم التي عذَّبها مرض السرطان ورحلة العلاج المؤلمة، ففي ساعاتها الأخيرة كان الوضع مختلفًا:

«نمتُ بعمق حتى الصباح، لم أكمل ساعتين متصلتين من النوم طيلة الشهور الماضية. أنتفضُ لأطمئن عليها ما إن أغفو، في تلك الليلة غبتُ أنا أيضًا، وصحوتُ على انقطاع الكهرباء في الصباح، لم أنظر إلى ماما ملهوفة، هذه المرة، نظرتُ إلى المرتبة المدارة بالكهرباء، فوجدتها تهبط، ويخرج منها الهواء، في صفير متصل. حاولت النهوض، لكن سحابة سوداء كانت تتحرك في الغرفة وكأنها مزدحمة، كأن كائنات غير مرئية تعجل بإتمام مهمة، لكنني نهضتُ في النهاية، بعد أن هدأ كل شيء. كان رأسها يميل بعيدًا عني، فمها مزمومًا، كعازف ناي، عيناها مغمضتين، ووجهها لا أثر فيه لتلك التقلصات، التي انتابته أخيرًا، هادئة تمامًا، نظرتُ إليها بهدوء، وقبَّلتُ جبينها، لم يكن باردًا، وضعتُ رأسي على صدرها، وعرفتُ أنها ماتت» (ص 213).

في موت القط الأول «ميشو»، تكاد تسمع معه طبلًا، وهتافَ عظامٍ راجفة.

«في ليلة بعيدة، بعيدة جدًا، أيقظني «رمزي» من نومي. كان يحمل في يده شيئًا ملفوفًا بملاءة ممزقة، أيقنت من ملامح وجهه المتجهمة أنه لا يحمل لي قطعة شوكولاتة، وبصوت تغالبه الدموع قال لي:

«كان لازم أصحيكِ علشان ندفن ميشو».

كان «ميشو» مريضًا جدًا في الأيام الأخيرة، لدغه ثعبان، وهو يتجول، مغامرًا، في الصحراء المتاخمة لبيتنا، ولم تفلح العقاقير في شفائه. في الحديقة الخلفية للبيت، وتحت شباك غرفة النوم - التي سنتناوب الحياة فيها بعد ذلك - أخذ «رمزي» يحفر، ثم أودعنا، سويًا، الجسد الثقيل الحفرة، وغطيناها بالتراب، وأمام شاهد خشبي مكتوب عليه اسمه، (اقتلعته الريح بعدها بأيام، ولم نفكر في البحث عنه) قرأنا له، بجدية بالغة - الفاتحة» (ص 12).

أما موت شجرة فهو يرمز إلى جنةٍ تَهوي، ويأسٍ سينقذنا من الأحلام.

«تحت الشباك، فيما بعد، وفى البقعة نفسها، نبتت شجرة خشخاش، ذعرت أمي، وقطعتها، خوفًا من ملاحقة قانونية، حذرها منها جارنا الضابط الشاب، متفهمًا جهلنا بالكارثة، التي تنمو في غفلة منا، لكنها نبتت في العام التالي، كان الأخوان قد رحلا منذ زمن طويل، ضحكتُ حين رأيت زهورها البديعة تطل من جديد، في العام التالي، قلت لأمي: «يرزق من يشاء بغير حساب!» لكنها ذات صباح رمت على جذورها زجاجة كيروسين كبيرة، وأشعلت فيها النار. لم تنبت، أبدًا، بعد ذلك، انتهت تمامًا، كأية جذور تُطعن في عمقها.. هكذا.. إلى الأبد» (ص 12).

إعلان