"العالم" الذي خرج من ضيق الجامعة إلى فضاء الشارع

"سيمر وقت طويل ليولد إن ولد، أندلسي بهذا الصفاء، وبهذا الغنى في المغامرة".

هذا مقطع من قصيدة للشاعر الإسباني "فيديريكو غارثيا لوركا"، قالها في رثاء صديقه مصارع الثيران "أغناثو سانشيث ميخياس" الذي قتله أحد الثيران في حلبة المصارعة.

وهي أصدق كلمات يُمكن أن تصف المثقف الوطني الراحل"محمود أمين العالم"؛ لما كان يتمتع به من سمات شخصية وفكرية نادرة، وثراء وتنوع في التجربة الإنسانية والصحفية والسياسية.

وكثيرة هي ملامح الإنسانية الرائعة في شخصية وحياة الأستاذ محمود أمين العالم، مثل القدرة على الاستغناء، التجرد عن الهوى والغرض الشخصي، الترفع عن الصغائر، صفاء النفس، الرقة والعذوبة عند اللقاء وتبادل الحديث، الدفء الإنساني وحب البشر، التفاني الشديد في العمل لكي يصبح "المثال" وما ينبغي أن يكون هو الكائن بالفعل. وأخيرًا التمسك بالأمل والتفاؤل الذي كان أبرز صفاته، والابتسامة الدائمة التي لا تفارق وجهه.

وهي سمات وملامح إنسانية قربت محمود أمين العالم من رجال التصوّف العظام، وجعلته صوفيًا من نوع خاص.

قد يستغرب البعض الربط بين المفكر اليساري محمود أمين العالم وبين التصوف، لكن تلك الغرابة تزول عند التعمق في معرفة سيرة ونشأة محمود أمين العالم؛ فقد نشأ في بيئة دينية كابن لعالم أزهري كان وكيلًا للجمعية الشرعية، وصاحب عمود في صحن الجامع الأزهر يُلقي فيه دروسًا يومية بعد صلاتي العصر والعشاء.

وكان اسم الوالد هو "السيد أمين"، أما لقب "العالم" فهو صفة أُطلقت عليه لعلمه، وصارت وثيقة الصلة بالاسم.

وفي ظني أن الراحل محمود أمين العالم، صوفي بالمعني الأكثر ثراءً وعمقًا للتصوف؛ وهو المعنى الذي يجعل التصوف رؤية فكرية للكون والحياة. رؤية جوهرها البحث عن الوحدة والاتفاق خلف التعدد والكثرة.

ومحمود أمين العالم، هو أيضًا صوفي على شاكلة "الحلاج" في رغبته لتغيير قبح وظلم الوضع القائم. الحلاج الذي دفع حياته ثمنًا لمحاولته منع مستمعيه ومريديه من الانحناء المر أمام "وهج الرغيف"، كما رأى الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور في مسرحيته الشعرية الشهيرة عنه.

ومحمود أمين العالم هو صوفي بحكمة السنين التي امتلكها وباتساع تجربته الحياتية، وبصفاء بصره وبصيرته.

وهو صوفي بروح الطفولة والدهشة والرغبة في التعرف على كل جديد، التي كانت تميزه.

وهو صوفي بتسامحه الشديد وبانفتاحه على مختلف التيارات والاتجاهات الفكرية والنماذج الإنسانية؛ فكأنه الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي عندما قال: "لقد صار قلبي قابلا كل صورة/ فمرعى لغزلان ودير لرهبان/ وبيت لأوثان وكعبة طائف/ وألواح توراة ومصحف قرآن".

وهو أيضًا صوفي متفلسف مثل ابن مدينة أخميم في صعيد مصر "ذو النون المصري"، الذي كان أول الصوفية الفلاسفة، والذي يُقال إنه بحث عن "إكسير الفلاسفة" الذي يحول التراب ذهبًا.

ومثله فعل الراحل محمود أمين العالم، بحث عن إكسير الفلاسفة، ليس بهدف تحويل التراب إلى ذهب، بل ليُوقظ العقول والأرواح من سُباتها العميق لتتعلم وتتثقف، وتسعي للتغيير والإصلاح، وتأكيد حضور قيم الحرية والمساواة والعدالة في المجتمع.

وكان إكسير الفلاسفة الذي وجده محمود العالم هو "الوعي النقدي"؛ فالمثقف عند محمود أمين العالم -كما هو عند الفيلسوف الإيطالي أنطونيو جرامشي الذي كتب عنه محمود أمين العالم كتاب "الأساس الفلسفي لفكر جرامشي"- هو ناقد للسلطة والمجتمع. وهو المسؤول عن تنمية الوعي النقدي لدى الجماهير، بوصفه مقدمة ضرورية لأي نهضة حقيقية.

ومن هنا صار محمود أمين العالم، مثقفًا ملتزمًا وفاعلًا، ولهذا قال لصديق عمره ورفيق دربه الراحل الدكتور عبدالعظيم أنيس، وهما يهمان بالخروج معًا من بوابة جامعة القاهرة التي فصلا منها عام 1954 : "لقد خرجنا من ضيق وصمت الجامعة إلى فضاء وصخب الشارع".

ومنذ ذلك التاريخ انحاز محمود أمين العالم إلى الشارع بناسه وفضائه الواسع وقضاياه ومشكلاته، ورفض أن يكون فيلسوفًا منعزلًا، ومثقفًا منفصلًا عن الواقع.

رحم الله الأستاذ محمود أمين العالم الذي علمنا بحياته وكتاباته أن الأمل هو آخر ما يمكن أن يفقده الرجل العظيم، وكان هو عظيمًا بحق؛ فلم يعرف اليأس طريقًا إلى قلبه، وعاش حتى ساعته الأخيرة في تفاؤل بمستقبل الإنسان، وبقدرته على تغيير الحياة إلى الأفضل والارتقاء بها.

بل أظنه عندما حانت ساعة الرحيل وجاءه ملك الموت، أنه أبتسم له كعادته مع الجميع، وقال له: أفعل ما تُأمر به، فالموت نهاية منطقية لحياة كل البشر. وأعتقد أن حياتي على الأرض لم تكن مصادفة أو عبثًا، بل كانت ذات جدوى عظيمة، وقد نجحت في إيجاد معنى لحياتي، وصنع قيمة لوجودي، ولذلك سأرحل هادئًا مطمئنًا، فقد أديت واجبي بقدر استطاعتي.

في النهاية، تحية إلى روح الراحل الأستاذ محمود أمين العالم، الإنسان، والمفكر، والمثقف الوطني؛ لأنه جسد لنا بشخصيته وحياته نموذجًا عظيمًا لمفكر ومثقف وطني كبير، ولأنه أعطانا القدوة والمثل الأعلى، وترك فينا مثل النحلة "شوكته" قبل أن يموت، مثلما فعل الفيلسوف اليوناني "سقراط" مع تلاميذه.