إعلان

 الجائحة ورمضان وإعادة كتابة تاريخ عزلة البشر ..

د.هشام عطية عبد المقصود

الجائحة ورمضان وإعادة كتابة تاريخ عزلة البشر ..

د. هشام عطية عبد المقصود
07:00 م الجمعة 16 أبريل 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

تمضي أيام شهر رمضان متوالية، تمضي وهي تصنع اختلافات في إحداثيات الزمان ووقائع ما يستجد في المعايش والمكان، تؤرخ لاختلاف في مسالك سير الناس في الحياة كما عهدوها تواصلًا ولقاءات وعادات وتقاليد، وحيث يأتي شهر رمضان وللعام الثاني في ظل إقامة ثقيلة لجائحة كورونا، غيمة تظلل بالأرق لون الأشياء وطعم التفاصيل، فتقطع اتصال ما عرفه الناس زمنًا وعشناه وألفناه عقودًا، من اجتماع شمل المحبين، حيث تفيض الرحمات ويتم بناء هوية في الروح تبقى، هو بعض ما عاش به الشهر الكريم حضورًا مختلفًا، جسرًا لالتقاء الغرباء والخصماء والبعيدين، فيه تتصافح الوجوه حبورًا ويتجاورون جلوسًا تسري بينهم "كل سنة وأنتم طيبين" سائغة تصنع الألفة.

يبقى أثر من رمضان الذي عرفناه في مشاهد دراما المسلسلات وفي تعليقات ومداخلات الجمهور عبر برامج الطهو، بينما تمضي الجائحة في تثبيت البعد الافتراضي للحياة ـ ركنًا وجدارًا، وهو الذي كان قد قطع شوطًا كبيرًا بالناس وهم يعيشون على موجات بثه وشاشات هواتفه اتصالًا، يتبادلون ما صنعه وثبته من أيقونات السعادة والحزن وجوهًا مرسومة وعلامات ثابتة لا اختلاف فيها، نمطًا متداولًا كونيًا جاهزًا عند أطراف أصابعك، لا يكلف انتقالًا ولا يجهد إبداعًا ولا يؤلم مشقة وجهدًا، حيادًا يشبه اللا شيء، وحيث لا لون أو طعم أو رائحة تعرفه بها، ومعه وفى ظل الجائحة تشكلت طقوس رمضان؛ لتكون صورة فانوس ورسم المدفع وإيموشنات التأثر والدعاء، رسمًا ووسمًا افتراضيًا ممتدًا، بينما حملت دراما الشاشات وإعلاناتها شيئًا من ألوان وذائقة أيام رمضان الخوالي، تدرك في ترويجها لمحتواها وسلعها أن تلك اللحظات التي عرفها الناس قبل الجائحة هي ما يستحق التذكير بهجة فتستفيض في وصف وقائع رمضان الذي عرفناه.

لا شك أن استمرار الجائحة يفرض محظوراته ويصنع اضطراراته، ويجعل كل ذلك مقبولًا بل ومطلوبًا، لكنه وهو كذلك يقينًا فإنه يمضي ناثرًا آثاره الجانبية، لتجعل البعد اعتيادًا والغربة تقليدًا وتصافح الوجه والأيادي امتناعات وخطيئة أو يوشك.

لا شيء مر بحياة البشر كونيًا فادحًا على هذا النحو من عموم الاتساع وانخراط الجميع فيه، ورغم أن تاريخ الجوائح قديم ومثبت في ذاكرة الكتب وتدوينات الرحالة، لكن ما خفف وطأته حينئذ ولم يمنحه الأثر المقيم عالميًا، هو الجهل به جزئيًا وجغرافيًا، حيث أدركه من عاش وطأته حيث حل به الوباء، بينما غاب عمن لم يدركه أو كان يظن متيقنًا أنه بعيد عنه، في حين صار العالم كله حاليًا في ظل الجائحة كرة موصولة موبوءة بالخوف والجائحة معًا، يفرض محاذير الحركة والانتقال قانونًا، فتمت إعادة تشييد تاريخ عزلة الإنسان، وكما كانت قبل اختراع وسائل التواصل والنقل وقبل الكشوف الجغرافية.

كانت الجوائح وضيق نطاق المعرفة بها هي ربما بعض من رحابة يمنحها عدم المعرفة نطاقًا ويسرًا، الجهل بها يقلل من وطأة المعرفة المؤرقة، وحيث وصف الأبنودي هنا لائقًا حين يقول فيلسوفًا "عدم العلم مليح.. عدم العلم عيون تنعس في الليل.. ضحكه من القلب من القلب صحيح".

وهكذا لم تصنع الجائحة الكونية وحدها ذعر البشر وخوفهم فقط بل ساهم في ذلك وقوي موجته ورسخ نتيجته تدفق وانتشار أخبار الجائحة وملاحقتها للناس أينما ولوا وجوههم وأعينهم وأسماعهم، بث يتواصل يستفيض يحتفي بتفاصيل وتكرار وتصعيد، وبينما يعطي أخبارًا ويوجه الناس احترازًا، فإنه أيضًا يواصل بناء صوبة العزلة الكبيرة التي تتراص بها صوب فردية يقبع داخلها بشر الكون فرادى حذرين يتواصلون افتراضيًا عبر شاشاتها، انتظارًا وترقبًا، وهو هول عظيم يقطع عاديات سير الأيام بما مرت عليه قرونًا وحملته دوما في طياتها مزيجًا من حلو ومر.

في رمضان الذي نحياه تغيب الوجوه التي تجتمع على شمل ما تيسر من الطعام هنيئًا للحاضرين، ونستبدل الكلمات بالإيموشنات والمصافحات باللايكات ونمضي فنترك لمن هو قادم في الطريق صغيرًا إلى جوارنا أو آتيا متتبعًا أثرنا اغترابًا وافتراضًا، نمضي بينما نأمل أن يكون ذلك وقتًا مقطوعًا غير موصول ولا مكرر في الزمان، وحيث أيام الجائحة وتاريخ ما عشنا وما تحمله الشاشات تذكيرًا يسيران متوازيين ومتداخلين واقعًا وافتراضًا، يمتزجان فلا نستطيع أن نفرق بينهما سبيلًا.

إعلان

إعلان

إعلان