إعلان

تأملات حول دون كيشوت

د. أحمد عمر

تأملات حول دون كيشوت

د. أحمد عبدالعال عمر
07:00 م الأحد 26 ديسمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

"دون كيشوت" هو بطل الرواية الشهيرة التي حملت اسم "النبيل البارع دون كيشوت دالامنتشا"، التي تُعد إحدى كلاسيكيات الأدب العالمي، وقد كتبها الأديب الإسباني "ميغيل دي ثيربانتس" في الربع الأول من القرن السابع عشر الميلادي، ليحكي بشكل درامي خفي وساخر، بعضًا من سيرته الذاتية، وجوانب من قصة خيبة آماله وأحلامه في الحياة.

تدور الرواية حول علاقة الإنسان المسكون بالمثل العليا وقيم الفروسية وفكرة البطولة مع عالمه ومتغيرات الواقع الذي يعيش فيه؛ فالبطل "دون كيشوت" هو رجل ضللته قراءة كتب البطولة والفروسية، وتشبع بالمثل العليا والقيم النبيلة؛ فخرج ممتطيًا صهوة جواده، برفقه مساعده وحامل رمحه الفلاح البسيط "سانشو بانثا" ليواجه الظلم، ويدافع عن الناس، وليصنع بطولاته وأساطيره الشخصية.

ومع أنه عاش في عصر خلا من العمالقة المتجبرين الذين تحدثت عنها كتب القدماء، ولم يعد في بيئته كائنات ضخمة سوى طواحين الهواء؛ فقد أصر "دون كيشوت" على خداع ذاته ورفيقه، وعلى ممارسة دور الفارس النبيل المدافع عن حياة وحقوق الجماهير، وقام بمصارعة طواحين الهواء متصورًا أنهم عمالقة؛ فخاض بذلك معارك صفرية عديدة، لم تؤدِ إلى شيء، وأثارت سخرية المحيطين به.

وصديقنا "دون كيشوت" رغم سمو دوافعه وغايته، هو إنسان مثقف مُغيب، ضللته غفلته عن متغيرات عالمه وواقعه.

كما ضللته حكايات الأبطال والأوهام الرومانسية؛ ولهذا خاض المعركة الخطأ، مع العدو الخطأ، في الزمان الخطأ، فأضاع عمره فيما لا منفعة منه، وجعل سيرته وحكايته "مهزلة إنسانية" مثيرة للضحك والشفقة.

وبعيدًا عن السخرية والشفقة، فإن رواية "دون كيشوت"، التي كتبها "ميغيل دي ثيربانتس" ليسخر من بعض مثله العليا، وفشله وخيبة أمله في بعض جوانب حياته، قد صنعت نجوميته وشهرته، وخلدت اسمه، واسم بطله في تاريخ الآداب العالمية، وتلك مفارقة عظيمة جديرة بالتأمل.

كما أصبحت تلك الرواية ميراثًا أدبيًا وإنسانيًا حيًا جديرًا على مر العصور بالقراءة، واستخلاص الدروس الإنسانية والفكرية منها.

وأهم تلك الدرس أن نبل الشخصية، ونبل الدوافع والغايات، لا يكفيان لنصرة القضايا العادلة، ونصرة الحق وأهله.

وأن الذكاء والدهاء وشمول الرؤية، ودقة فهم الواقع وتفاصيله، والعالم ومتغيراته، وحساب موازين القوى فيهما، والتمييز بين الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية، واختيار لغة وآليات التعبير والنضال المناسبة للعصر، ضرورة لا غنى عنها لكل صاحب قضية وطنية وإنسانية، حتى لا يُبدد حياته وأحلامه بلا طائل في معارك طواحين الهواء.

وأظن أن الخطأ التراجيدي الذي ارتكبه "دون كيشوت"، ويجب التوقف عنده والاستفادة منه، أنه رغم سمو دوافعه وغايته، كان يملك تصورات زائفة عن ذاته وإمكاناته ودوره.

وأنه لم يستوعب متغيرات عصره، ولم يفهم أن زمن الفروسية القديم قد ذهب، وأن شكل العدو، وآليات الصراع، وآليات نصرة الحق ونشر الحقيقة، قد تغيروا بالكامل عن العصور السابقة التي أدمن قراءة قصصه وحكايات فروسية أبطالها.

ولهذا فقد عاش "دون كيشوت" وخاض معارك عصره، بأفكار ولغة وآليات عصر سابق، واخترع أعداءً متوهمين، ودخل في معارك مع طواحين الهواء، فابتذل بذلك قضيته، وهزمها بيده، ولم يجن سوى خيبة أمله، وسخرية وشفقة المحيطين به.

وتلك نهاية جديرة بالتأمل لكل "دون كيشوت" جديد؛ لأن "دون كيشوت" في حقيقة الأمر، ليس فردًا، بل هو "نموذجًا إنسانيًا حيًا" يعيش في كل العصور والمجتمعات.

ولكن يجب على "دون كيشوت الجديد" لكي يتجنب دائمًا مصير "دون كيشوت القديم" أن يسعى بدأب للتخلص من الأوهام، وأن يُعيد فهم ذاته وإمكاناته ودوره، وفهم متغيرات الواقع والعالم من حوله، وأن يتحرر من سجن الكتب، واعتبارها المصدر الوحيد للتعلم، ليفهم ويتعلم من التجربة والممارسة العملية، ومن الانغماس في تيار الحياة ذاتها.

إعلان