إعلان

محمد خان.. اختراع الأمل!

د. ياسر ثابت

محمد خان.. اختراع الأمل!

د. ياسر ثابت
07:00 م الأحد 07 نوفمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لعل أدق تعبير ممكن أن يصف هذا الكتاب هو بيت فؤاد حداد «أنا في اختراع الأمل، صاحب عشر براءات».

إنها «خطابات محمد خان إلى سعيد شيمي» بأجزائها الثلاثة، التي تقدِّم لنا متعةً استثنائية، يزيد من أهميتها تلك الصور والوثائق النادرة التي تتناثر عبر الصفحات وفي النهاية.

بدأت القصة باكتشاف!

فقد كتب المخرج محمد خان ذات يوم على فيسبوك تفاصيل اكتشافه المدهش، مشفوعًا بصور لملفات ضخمة. قال محمد خان إنه فوجئ أثناء زيارته لصديق عمره مدير التصوير السينمائي سعيد شيمي بأن الأخير ما زال يحتفظ برسائله القديمة، بعد أن غادر خان إلى لندن وبيروت.

لعل أبرز ما تكشفه هذه الرسائل المهمة هو ذلك الناقد اليقظ والواعي الذي كان يكمن داخل خان، وهو الذي ساهم في بلورة رؤية خان فيما بعد لنوعية الأفلام التي يفضل صنعها. إن قراءة هذه الرسائل في أجزائها الثلاقة تلقي الضوء على تفكير مخرج متمكن، يعد أحد أبرز مخرجي السينما الواقعية منذ ثمانينيات القرن العشرين. يكفي أن نشير إلى أنه شارك في كتابة 13 قصة من 25 فيلمًا أخرجها، وحصل عنها على عشرات الجوائز المحلية والعالمية، ومن أهمها «ضربة شمس» و«موعد على العشاء» و«خرج ولم يعد» و«زوجة رجل مهم» و«أحلام هند وكاميليا» و«الحريف» و«أيام السادات» و«في شقة مصر الجديدة».

يمتلك المخرج محمد خان اندفاع الأطفال وخشونة المثاليين الذين يرون في الرسائل الكبرى ذروة ضد شهوات ومطامع الحياة. ارتكب جنحة الاغتراب، لكنه لم ينس حلم السينما، فمضى في طريق استعادة الحلم، والعزم سهمٌ في كاحِله.

في السينما، هو واحد من ضحايا الاستقامة. وفي الحياة، بدا كما لو أنه وعاءٌ على النار. وفي دور العرض، يجعلك تُصدِّق الحكاية وتبحث عن سببٍ حقيقي للبكاء.

وهو يأخذنا من خلال ممر من الذكريات نحو رحلة العمر وذلك الهوس النبيل بالسينما.

تقرأ رسائله فتكتشف أنك أمام رجل يشعر داخله أنه سيقلب ساعة العالم.

الجزء الأول من الخطابات يحمل عنوان «مشوار حياة» (الكرمة، 2018)، وهو يضم خطابات تمتد من فترة الشباب في الستينيات وحتى السبعينيات، وهي من إعداد وتعليق صديق عمره المصور السينمائي الكبير سعيد شيمي ومن تقديم الناقد الفني محمود عبدالشكور. ويقع الجزء الأول في 392 صفحة من القطع الكبير.

تغطي الخطابات في الجزء الأول سبع سنوات في عمر محمد خان، من سن 17 إلى 24 عامًا. مرحلة عمرية تبدو مُبكرة للغاية على ما نجده الخطابات من نضج وعمق وإصرار وشغف حقيقي بالسينما، الحديث عن الشغف هنا ليس مجرد عبارة من عبارات المدح المعتادة في وصف مسيرة مُخرج ما، بل هو شغف تم اختباره من خلال تقلبات وانكسارات وإحباطات وظروف مادية وعائلية سيئة كفيلة بتقويض حياة أي إنسان. قراءة هذه الخطابات واليوميات وأنت تعلم النهاية مُسبقًا، وتعلم إلام سيصل صاحبها من شأن وإلى أثره في السينما العربية هو في حد ذاته تجربة ثرية ومثيرة للتأمل.

يقول الناقد السينمائي محمود عبدالشكور في مقدمته لهذا الكتاب: «كأننا أمام دراما هائلة تمثل قصة حياة محمد خان في سنوات الشباب، مكتوبة بصراحة مطلقة، وكأن كل سنة هي فصل مثير، تتخلله لحظات صعود وهبوط، وأمل وإحباط. إننا تقريبًا أمام مذكرات عقل ووجدان وعين شاب مصري رأى وسمع وشاهد، ونحن أيضًا أمام وثيقة مدهشة عن جيل يكتشف معنى الفن والحياة، ويحاول في نفس الوقت أن يكتشف نفسه وقدراته، لكي يعبر بهذه القدرات من عالم الهواية إلى دنيا الاحتراف، من شغف الفرجة، وهي أساس كل شيء، إلى حلم صناعة الأفلام، وبهجة تحقيق السينما... سعيد شيمي.. هذا الصديق الوفي الكبير، عاشق السينما، هو أفضل من يقدم للقارئ رسائل صديقه الراحل، وهو أيضًا من تضيف تعليقاته على الرسائل الكثير شرحًا وتوضيحًا، فكان هذا الكتاب البديع».

في خطابه المرسل من لندن بتاريخ 9 مارس 1964 يقول محمد خان:

إنني أحلم... أحلم وأحلم طوال الوقت، وصدقني يا سعيد إن اليوم الذي سأصبح فيه غني... ولا بدَّ أن يأتي هذا اليوم.. حينذاك سأعرف كيف أعيش.. فلو كنت قد أصبحت غني الآن أو غدًا. لقد تعلمت الكثير بإرادتي وبدون إرادتي. لن أظلم بل سأثأر ليس من الناس بل من تلك الطبيعة الغادرة.. سأعطي أهلي كل ما يريدون، ونفسي وأحبائي كل ما يريدون، وفي النهاية سيكون ثأري في كتابتي كما أريد، ستكون الحقيقة المُرة في سطوري وفي أعين المتفرج على الشاشة، لا بد وأن أصبح مخرج في يوم من الأيام، لا بد وأن أتنفس، أعيش يا أخي.. ألا تشعر أنني أموت.. أموت موتا بطيئًا لا يدريه أحد إلا أنت ربما» (ص 177).

الجزء الثاني من الخطابات (2019) لا يقل إبهارًا ودهشة عن الأول.

حميمية مُدهشة، صداقة حقيقية بعيدًا عن التكلف. هناك حب وصدق وعتاب. حتى الحوارات المقتضبة كانت مكثفة وعميقة وتؤدي دورها دون إسهاب أو ترف لغوي.

رسائل مليئة بفيض من المشاعر والرقة، بذاكرة متكاملة لعالم سينمائي وتاريخ حقبةٍ بعينها.

عبر 564 صفحة من القطع الكبير، تبحر في عالم محمد خان، وتفهم أبعاد حلمه السينمائي مع صديقه سعيد شيمي.

في رسالة مؤرخة بتاريخ 3 يونيو 1972، يقول محمد خان لسعيد شيمي:

«إنني ما زلت مع أني بعدت عن للسينما (حتى مشاهدتي للأفلام أصبح نادرًا جدًا، فإنني داخلي أعلم أشعر بقيمة السينما كفن... ربما لأنني لم أخرج بعد الفيلم الذي يحرق صدري.. ما زلتُ أرى الحياة في شبه كادرات وأرى الناس كشخصيات في رواية كبيرة وألمح حركاتهم، تعبيراتهم ودموعي الجافة تتعلق داخل عيني.. الحياة ليس لها قيمة.. الفن به قيمة.. والفن والحياة شيئان مختلفان وهذا أجده غريبًا فعلًا» (ص 419).

تكتنز الحقائب بكثير من الحكايات.

يحمل الجزء الثالث والأخير من الخطابات عنوان «مصري للنخاع» (2020) وهو الوصف الذي كان قد كتبه، الناقد الفني سامي السلاموني عن محمد خان، حينما كتب عن أحد أفلامه. استعار شيمي هذه الوصف ليكون عنوان الجزء الأخير من رسائل صديقه خان إليه، قبل أن تتحول هذه الصداقة إلى تعاون سينمائي أثمر عن ستة أفلام.

يحتوي هذا الجزء، على خطابات خان إلى شيمي، من 1973 إلى 1977، قبل أن يعود محمد خان نهائيًا إلى مصر من تغريبته التي أخذته إلى بريطانيا ولبنان. رسائل عميقة ومؤثرة لواحد من أهم مخرجي السينما المصرية، كما تعكس روح العصر. وكما قال خان لشيمي في أحد خطاباته «أكتب إليك كي أتنفس فقط» (ص 23).

يود خان أن يتملص من تلك القبضة التي تمسك بعنقه وتزيد ضغطها عليه فيتوقف تمامـًا عن التنفس.

إنه كتابٌ يؤكد بأجزائه الثلاثة أهمية المثابرة والإصرار على تتبع عشق الإنسان وتنميته لموهبته ووجوب استمرارية التعلم للارتقاء بالمستوى المهني للفرد.

إعلان