إعلان

"ريش" في السجن

أسامة عبد الفتاح

"ريش" في السجن

أسامة عبد الفتاح
07:00 م الأربعاء 17 نوفمبر 2021

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

فندق "أفريكا"، شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة تونس، صباح السبت 6 نوفمبر 2021، يوم ختام أيام قرطاج السينمائية رقم 32.

كنت أعرف أن أمامي يوما طويلا، يجب فيه أن أحضر حفل الختام، ثم أكتب تغطيتي له وأرسلها للجهات التي أتعامل معها، ثم أحزم حقائبي استعدادا للعودة إلى مصر، على أن أنتهي من ذلك كله في وقت يسمح لي بالراحة ساعة أو اثنتين قبل التوجه للمطار في ساعة مبكرة من صباح الأحد 7 نوفمبر.

ورغم ذلك، لم يكن من الممكن أن أفوّت هذه الفرصة: ثاني عرض سينمائي أحضره في سجون تونس، في ختام الدورة السابعة من المبادرة الرائدة جدا "أيام قرطاج السينمائية في السجون"، والفيلم هو المصري "ريش"، الذي أثار جدلا كبيرا بمجرد عرضه بمسابقة مهرجان الجونة في أكتوبر الماضي، والذي فاز بأربع جوائز رئيسية مساء نفس اليوم في ختام "الأيام"، منها "تانيتان" ذهبيان.. أما السجن، فيغري أكثر وأكثر بخوض التجربة: "برج الرومي" الشهير، بل الأشهر في تونس، الذي يرتبط اسمه تاريخيا بفظائع وجرائم ارتكبت في حق المساجين في العهود البائدة ولا يستطيع العقل البشري "العادي" تصديقها أو حتى تصورها.

بناه الجيش الفرنسي عام 1932 في مدينة بنزرت الشمالية، وكان أحد السجون المفضلة لنظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، حيث تشهد أسواره على عمليات تعذيب ممنهجة خرج منها عشرات السجناء جثثا هامدة. وهناك عشرات الشهادات لمساجين- أو بالأحرى معتقلون- تعرضوا لأصناف من التعذيب داخله، منها رواية بعنوان "برج الرومي.. أبواب الموت" للشاعر والسجين السياسي السابق سمير ساسي.

أما اليوم، فصار أحد أكثر السجون التونسية مشاركة في الحركة الثقافية الموجهة للمساجين، وتعمل إدارته على إتمام مشروع السجن النموذجي على أنقاض العنابر التي احترقت خلال ثورة 14 يناير 2011، بدعم مشاركة السجناء في ورش إنتاج مسرحي وسينمائي وأدبي، بالإضافة إلى ورش في الموسيقى والغزل والنسيج والنجارة والخط العربي، وغيرها.

التقطتني سيارة المهرجان من أمام الفندق، وسعدت فيها بصحبة الكبيرين: خالد العازق، الكاتب العام للمركز الوطني التونسي للسينما والصورة، الجهة المنظمة لأيام قرطاج، والناقد والباحث كمال بن وناس، المدير الفني لدورتها الثانية والثلاثين. رجلان مثقفان، قليلا الكلام، خفيضا الصوت، لكن كلماتهما القليلة كانت كافية لإلقاء الضوء على تاريخ "برج الرومي" وقرية "الناضور" التي يقع فيها، والتأكيد- مع استمرار صعودنا الطريق الجبلية وانكشاف البحر أمامنا واقترابنا من بنزرت- أننا أصبحنا في أقصى شمال تونس، وإفريقيا كلها.. على "حافة" القارة إن جاز التعبير.

مطر خفيف عند بوابة "برج الرومي"، ولسعة برد بددتها حرارة الاستقبال من أصحاب الزي الرسمي والوجوه المبتسمة المرحبة. كان طلبهم الوحيد ضبط هواتفنا المحمولة على "وضع الطيران" مع الاحتفاظ بها. تذكرت تجربتي الأولى مع "قرطاج السجون"، في نوفمبر أيضا لكن عام 2019، بالسجن المدني بالمسعدين في سوسة، مع عرض الفيلم المصري الآخر "لما بنتولد"، حين طُلب منا تسليم هواتفنا المحمولة بعد إغلاقها تماما.

لم أكن قد دخلت سجنا في حياتي، لا داخل مصر ولا خارجها، ولا حتى لزيارة مسجون، ولذلك كانت التجربة التي خضتها وقتها مع صناع "لما بنتولد": المخرج تامر عزت والمنتج معتز عبد الوهاب والمنتج الفني محمد جمال والممثليْن عمرو عابد وبسنت شوقي، ثرية جدا ومفيدة جدا، خاصة أن إدارة السجن وفرت لنا جولة داخل عنابره وزنازينه وساحاته لتكتمل الرؤية.

لكن تجربة "برج الرومي"، الأكبر والأعرق، مختلفة في كل شيء، وليس فقط في التعامل مع الهواتف المحمولة. كنت المصري الوحيد، ولم يكن هناك أحد حتى من فريق الفيلم. لم تكن هناك جولة في السجن، لكن تفقدنا معرضا لمنتجات المساجين من الأثاث والمصنوعات الجلدية والملابس وغيرها، وإبداعاتهم الفنية في النحت والخط العربي والرسم وغيرها. لاحظت أيضا أن قاعة العرض أكبر، مع جودة ملحوظة للصوت والصورة قد لا تتوفر في قاعات سينما "احترافية" بعواصمنا العربية!

أهم ملاحظة في القاعة بسيطة جدا وبديهية جدا: أنها مليئة بالمساجين، وهذا حدث نادر يصعب أن يتكرر في مكان آخر أو دولة أخرى. فكرت وأنا أختلس النظر إليهم أن السينما من حقهم كما هي من حق غيرهم، وأنهم ليسوا وراء أسوار السجن للتنكيل بهم، بل لإصلاحهم، وليس هناك ما هو أفضل وأرقى من الفنون لإصلاح البشر.

وأعتقد أن هذه كانت الفكرة الرئيسية وراء إطلاق مبادرة "أيام قرطاج السينمائية في السجون" عام 2015، حين تولَّى المخرج إبراهيم اللطيّف إدارة المهرجان، حيث حققت نجاحا كبيرا، واجتذبت المهتمين بالشأن الفني والثقافي وعناصر المجتمع المدني إلى خصوصية التجربة واستثنائيتها، ومثلت فرصة للقاء نادر بين صناع الفن السابع والمساجين للنقاش والتفاعل حول الأفلام، إيمانًا بحق نشر الثقافة السينمائية بين الجميع، حتى لو كانوا قد فقدوا حريتهم مؤقتا.

ومن مناقشاتي مع مسئولي "الأيام"، وكذلك المركز التونسي للسينما والصورة، فهمت أنه ليست هناك معايير خاصة لاختيار الجمهور داخل السجن، وأنه في النهاية جمهور "قرطاج" مثل غيره، وأن اختيار الأفلام مال لأن يكون النصيب الأكبر للأفلام التونسية لإعطاء فرصة أكبر للسجين للاطلاع على الحياة خارج السجن، إذ يمكن أن يجد ما يربطه بالواقع الخارجي، مما يوطّد علاقته به، لكن ذلك لم يمنع وجود أفلام من دول أخرى في مقدمتها مصر. كما تأكدت أنه لم يكن هناك إقصاء أو رقابة على الأفلام أو أي شروط أخرى سوى أنها مبرمجة داخل المسابقة أو خارجها.

أهم وأجمل ما في التجربة تعليقات وملاحظات المساجين على الفيلم في الندوة التي أعقبت عرضه، حيث فوجئنا جميعا بمستوى الآراء والتعليقات، ومدى نضجها وصدقها، مما حوّل قاعة العرض في السجن إلى منبر ثقافي.. وأستطيع أن أقول- بضمير مستريح- إن مداخلات عدد منهم كانت أنضج وأصدق وأكثر موضوعية من آراء بعض من يزعمون أنهم نقاد سينمائيون في بلادنا العربية!

وهنا أتوجه بالشكر إلى الصحفية التونسية حنان مبروك، التي استعنت بها للتأكد من أسماء وتعليقات المساجين، حيث رأى سجين يُدعى "كمال" أن فيلم "ريش" يكشف بعضا من "حقيقتنا كمجتمعات عربية، لا تزال المرأة فيها غير قادرة على العيش بحرية دون رجل، فتصبح بغياب زوجها أو أبيها أو ابنها مطمعا للجميع، فحتى دخولها (في الفيلم) إلى أي مكان استوجب اصطحابها لابنها القاصر".

أما "سليم"، المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة إثر ارتكابه جريمة قتل في أولى سنوات دراسته الجامعية للهندسة، والذي يُعد من السجناء الذين جعلوا زملاءهم يحبون السينما والفن ويشاركون في الورش الفنية، فكانت رؤيته للفيلم مختلفة، حيث رأى أن الدجاجة في "ريش" طائر "محتفى به في المخيلة الشعبية التونسية"، مسترجعا أمثلة شعبية تبعث الأمل في النفوس وتقوي الهمم والعزائم مثل "حمل الجماعة ريش" و"تعيش وتربي الريش" (أي تكبر وتصبح قويا)، وهذا ما أصبح عليه حال الزوجة حين أجبرت على دخول معترك الحياة والعمل.

وقال سجين آخر، لم يفصح عن اسمه، إن الفيلم يكشف قوة المرأة في تحدي الظروف من أجل العائلة، وهو نموذج مأساة صغرى تعيشها المرأة كل يوم من بين مآس كبرى في المجتمع.

وقد بلغ عدد النزلاء الذين شاهدوا أفلام هذه الدورة أربعة عشر ألف سجين بمختلف السجون التونسية، أي ما يتجاوز نصف عدد المساجين على مستوى تونس، حيث توجد في البلاد 28 مؤسسة سجنية- إضافة إلى ستة مراكز إصلاح للسجناء القصر (دون الثمانية عشرة عاما) - تضمّ نحو أربعة وعشرين ألف سجين.

إعلان