إعلان

«الجثة» تعيد محمد فريد في ذكراه المئوية

د.ياسر ثابت

«الجثة» تعيد محمد فريد في ذكراه المئوية

د. ياسر ثابت
07:00 م الثلاثاء 22 سبتمبر 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في روايته «الجثة»، التي صدرت حديثًا، يقدم الروائي سليمان القلشي نموذجـًا للدراما التاريخية التي نفتقدها، كما يركز على شخصية وطنية أهملها التاريخ كثيرًا وطويلًا: محمد فريد.

يمسك القلشي في روايته الصادرة عن المكتب العربي للمعارف (القاهرة، 2020) بتلابيب البساطة والصدق ووضوح النبرة، ويقدم سردًا يمزج بين الحقائق التاريخ وخيال الدراما، كي يلقي الضوء على واقعةٍ تستحق أن تتحول- الذي حلت الذكرى المئوية لوفاته بدون اهتمامٍ لائق- إلى أعمال فنية ودرامية- تليفزيونية وسينمائية- لتخليد حكاية تجمع بين أسمى معاني الوطنية والكفاح.

عبر صفحات الرواية، التي تقع في 326 صفحة من القطع المتوسط، نتابع تفاصيل مثيرة ومهمة عن الجهود التي قادها تاجر مصري- رغم المشاق التي واجهها- لإعادة جثمان البطل الوطني محمد فريد (1868- 1919) إلى أرض مصر.

وعلى الرغم من بعض الإسهاب في التفاصيل والاستعانة المتكررة بالمفردات والتراكيب العامية في الحوارات الدائرة بين شخصيات الرواية، فإن هذه الحوارات على بساطتها، كانت أحد المفاتيح الرئيسية في الرواية، خاصة أنه تضمنت في كثير من الأحيان معلومات وحقائق تاريخية تدخل في نسيج الحكاية الملهمة.

تتناول الرواية حياة «أحمد»، ذلك الشاب القادم إلى قاهرة المعز من قرية «الرمالي»، التابعة لمركز قويسنا بالمنوفية.

يحاول «أحمد» بكل ما أُوتي من قوة أن يصنع تاريخًا مهنيًّا محترمًا في مجال الصحافة؛ حتى يصل بمستقبله إلى مكانة طيبة، وشخصية محترمة، تُناسب آمال جده إبراهيم ووالدته وإخوته فيه.

«أحمد» يهتم بالثقافة، والفن، والتاريخ، وهي أمور يرجع الفضل فيها لجدِّه؛ فهو رجل مثقف، عاشق للتاريخ.

يتكرر الصدام بين «أحمد» ورئيس تحرير الجريدة، حين يفاتحه الأول برغبته في كتابة موضوع عن ذكرى وفاة محمد فريد. يرفض رئيس التحرير الفكرة، فيرد عليه بالقول:

«لكن ده راجل زعيم وطني كبير، ما يستحقش نعمل عليه موضوع وإحنا على مشارف الذكرى المئوية لوفاته؟

- لأ، معندناش مساحة للكلام التاريخي الخايب ده».

بتشجيع من الجد، يقرأ «أحمد» عن حياة محمد فريد ودفاعه عن الحركة الوطنية المصرية، وقضية الاستقلال، وصولًا إلى وفاته في منفاه في ألمانيا، لكن ما استوقفه حقًا أنَّ الذي أحضر جثة محمد فريد إلى مصر للدفن هو تاجر من الزقازيق، يُدعى خليل عفيفي، اضطلع بمهمة جلب الجثة من ألمانيا على حسابه الشخصي، حيث بذل جهدًا كبيرًا؛ للحصول على موافقات محلية وعالمية إلى أن جاء بالجثة إلى مصر لتُدفن في ترابها.

كان «أحمد» يقرأ هذه الكلمات، وكلُ جزءٍ في جسمه ينتفض؛ مستغربًا هذا الموقف البطولي لهذا الرجل المجهول، وقال لنفسه: من هذا الرجل العظيم؟!

من هنا تبدأ رحلة البحث عن خليل عفيفي.

يغوص بطل الرواية في أعماق التاريخ وبطون الكتب بحثًا عن إجابات تشرح له طبيعة خليل عفيفي ودوافعه لنقل جثمان محمد فريد إلى مصر.

نكتشف عبر سطور الرواية تفاصيل مثيرة حول الحاج خليل عفيفي؛ أحد تجار الزقازيق المعروفين والمشهورين، وأحد قيادات حزب الوفد، وله تجارة واسعة في مدينة الزقازيق، عاصمة محافظة الشرقية، فهو من أكبر تجار (المانيفاتورة)؛ تلك التجارة الرائجة في تلك الأيام، وبخاصة في الأقاليم التي لا تتمتع بغنى العاصمة. محلُّه في قلب مدينة الزقازيق في أكبر ميادينها، وهو ميدان المنتزه، بجوار مديرية الأمن بالزقازيق. امتلك الحاج خليل عفيفي، أيضًا، محلًا آخر بمدينة فاقوس، إحدى مدن الشرقية، يبيع فيه السلع نفسها التي يتاجر فيها بمحلِّه الأكبر بمدينة الزقازيق.

نتابع حكاية التاجر العصامي والأمّي الذي تعود جذوره إلى قرية شبرا زنجي بالمنوفية، ونكتشف أنه اعتاد السفر إلى باريس، وغيرها من العواصم الأوروبية؛ ليتعامل مع شركات، وتجار كبار، ويستورد منهم السلع، ويقيم في تلك العواصم، ويرتاد الفنادق وأكبر المحال فيها.

في لحظةٍ وطنية مضيئة، تبرع هذا التاجر الفطن بالسفر إلى ألمانيا لتنفيذ وصية محمد فريد وإعادة جثمانه إلى مصر ليدفن في وطنه.

وصل الحاج عفيفي إلى ميناء مارسيليا الفرنسي أولًا، ففي تلك الفترة نشبت في برلين ثورة تعرف باسم ثورة الدكتور (فون كاب) وكانت الأحوال في ألمانيا غير مستقرة، فاضطر للبقاء في باريس قرابة شهر، حتى أنه أصيب بالتهاب رئوي حاد من شدة البرد الذي لا يألفه.

ظل هناك حتى هدأت الأمور وتوجه إلى برلين وهو مازال يعاني المرض ويتحامل على نفسه في سبيل الغاية الكبرى التي صمم على إنجازها.

لم ينتهِ الأمر بوصوله برلين؛ فقد واجهته مشكلة جديدة وهي أن ألمانيا أصدرت قانونـًا يقضي بعدم نقل جثمان أي متوفى إلى خارج البلاد، ولكنه لم ييأس وكان واثقـًا بأن الله لن يخذله، فبدأ بالبحث عن مصريين في ألمانيا ليساعدوه في هذه المشكلة.

يوفق الحاج عفيفي في العثور على ثلاثة مصريين أيدوا فكرته وهم الدكتور عبد العزيز عمران وإسماعيل لبيب والتاجر المصري محمد سليمان، وبذل المصريون الأربعة كل المساعي لدى الحكومة الألمانية، وساعدهم في ذلك البارون الألماني أوبنهايم، واحتج الأربعة لدى الحكومة الألمانية بوجود واقعة مشابهة؛ إذ سبق أن وافقت على نقل جثمان أحد الضباط الفرنسيين إلى بلاده بناء على طلب الحكومة الفرنسية.

في جو من التشويق، نتابع مساعيهم الحثيثة التي تكللت بالموافقة على طلبهم، ثم تعيّن عليهم أخذ إذن بمرور الجثمان عبر النمسا، وأخذ ترخيص من الحكومة الإيطالية بعدم التعرض لهم أثناء مرورهم بالجثمان أثناء إبحاره في ثغر تريستا، تمهيدًا لنقله على الباخرة (حلوان) المصرية إلى الإسكندرية.

مكث الجثمان في برلين نحو ثمانية أشهر. وكان الجثمان قد حنط بعد الوفاة مباشرة.

لم يسترح الحاج عفيفي إلا بعد وصوله الإسكندرية في شهر يونيو من عام 1920.

وأخيرًا عاد جثمان المناضل محمد فريد، وتقدَّم الجثمان- الملفوف بعلم مصرـ الحاج عفيفي ومجموعة كبيرة من المصريين في جنازة شعبية فريدة، ورفع المشيعون لافتات تحمل كلمات الزعيم محمد فريد الخالدة.

تقول الكتب والمراجع التاريخية إن رحلة نقل الجثمان كلفت الحاج عفيفي خمسة آلاف جنيه، في الوقت الذي لم يترك فيه لأسرته عند وفاته إلا قطعة أرض و200 جنيه ومحل المانيفاتورة.

وظل جثمان محمد فريد منذ 1920 في مقابر السيدة نفيسة بالقاهرة إلى أن رأت الثورة أن تجمعه مع رفيق عمره مصطفى كامل في ضريح واحد.

أما الوطني الحاج خليل عفيفي، فقد خرج في جنازته الأطفال والنساء والرجال والشيوخ، الصحيح والسقيم، ليودعوا هذا الرجل الذي أعطى المصريين درسًا في معنى الوطنية الحقة.

إعلان