إعلان

علاء الغطريفي يكتب: المسألة التركية "5".. العرب المخدوعون!

علاء الغطريفي

علاء الغطريفي يكتب: المسألة التركية "5".. العرب المخدوعون!

علاء الغطريفي
04:09 م السبت 08 أغسطس 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في كتابه التيارات البحرية يحكي ضابط البحرية جوليان فليكس أن فرقاطة ذهبت للبحث عن سفينة حربية هزمتها عاصفة عنيفة، وبعد وقت وجد الطاقم تحت السماء ذات الشمس الساطعة زورقا مضطربا، ذهبوا إليه وعند النقطة المقصودة، رأى الجميع طوافة محملة بالرجال المجرورين بواسطة زوارق وتلوح عليهم علامات الاستغاثة.

وعندما وصلت إليهم قوارب النجاة لم تجدهم الطواقم مجموعة من الرجال، يتخبطون في الماء ويمدون أيديهم مستغيثين، بل كانوا مجرد أغصان أشجار مغطاة بأوراق من الشاطئ المجاور، ولم تكن الحقيقة كما صورتها تخيلاتهم، وأمام الحقيقة تبخرت الأوهام، وانتهت الهلوسات التي بدأها مراقب السفينة ثم انتقلت العدوى إلى كل أفراد الطاقم!

المثال الذي أورده جوستاف لوبون في كتابه "سيكولوجية الجماهير" عن الخداع الجماعي يصلح مدخلا لتوصيف هذا الانجذاب العربي تجاه أردوغان وتركيته، رغم الواقع الذي يفسر كثيرا من عدائيته وأطماعه في العرب وثرواتهم وأرضهم ومقدراتهم.

التلاعب بالرموز

يمارس التلاعب بالرموز بإلحاح من خلال صناعة الصورة، كما يصف هربرت شيللر في كتابه "المتلاعبون بالعقول" من أجل تحقيق هدف التغلب على مناهضة سياسة ما أو مجابهة عداوة قائمة أو ناشئة؛ فكافة التصرفات التركية تجاه شعوب المنطقة تدور في هذا السياق، ومشهد الإخراج في "آيا صوفيا" لم يخرج عن هذا الغرض الذى يرسل للعالميْن العربي والإسلامي برسالة كاذبة عن تركيا المسلمة وقائدة الإسلام في وجه الغرب المسيحي، رغم أن تركيا ذاتها قبّلت - ولا تزال تقبّل - أقدام الأوروبيين لتكون جزءا من اتحادها، وتدخل هذا النادي المسيحي على حد تعبير جيسكار ديستان، الرئيس الفرنسي الأسبق، هذا بجانب عضويتها في حلف غربي "الناتو"، والتحاقها بالأمريكيين وسياساتهم وغزواتهم في المنطقة منذ عقود.

صرف الأنظار

تستخدم تركيا دائما هذه الصور بعد تمكين حزب العدالة والتنمية، منذ عام 2002، لتخاطب الشرق والعالم الإسلامي، لتصرف الأنظار عن المطامع والشرور التي تحملها سياستها التوسعية والحالمة بالماضي الإمبراطوري من خلال استراتيجية الاتجاه نحو الشرق، التي عبر عنها منظرو الحزب وأدبياته، فالخير ليس محمولا على حاملات الطائرات ولا على أجنحة الـ"إف 16" أو الأباتشي، والتدخلات السافرة في شؤون الدول غرضها دائما المصلحة التركية التي تشغل أردوغان قبل أي شيء وليس الدين أو العقيدة.

تفتيت الجبهات الداخلية المعادية للتوجهات التركية في المنطقة، وخلق مشاهد تؤثر في نظرتها للأمور، والبوابة الواسعة للتأثير والوصول إلى هذه الغايات - هو الدين كما عرفت البشرية منذ فجر التاريخ، فقد يقف البعض حائرا أمام إقامة صلاة أو سماع أذان في الجانب الأوروبي من تركيا "إسطنبول" ويرتبك في مواجهة مغازلة بالتاريخ "فتح القسطنطينية"، رسخت في تصوراتنا جميعا من خلال الكتب المدرسية أو السيرة النبوية، وصارت عقيدة لدى كثير من المسلمين في الماضي والحاضر والمستقبل أيضا.

يتشوش البعض أمام هذه المشاهد السياسية البحتة في ظل ظاهريتها الدينية، فيراها بعاطفة الانتماء الديني، فيتقبلها دون التفكير في مصلحة وطنية، ويقع أسيرا لدعاية سياسية ويستسلم لخداع الصورة، يتأرجح بين مفهوم الوطن والأمة، فيختلط عليه الأمر كما خدعوه تجار الدين دوما، فيتأخر الوطن في أولوياته، ويخالطه تصور خاطئ لا يعبر عن الدين الحقيقي بالمرة، بل الدين الذي يرغبون في فرضه.

سبيل قديم

التلاعب بالجماهير العربية سبيل تركي قديم، عادت ملامحه بوضوح في العقدين الأخيرين، فالنظام الأخلاقي والديني الذي يخلقه ما سمّاه "لوبون" العرق التاريخي يجعل الأفكار والعواطف التي يتشكل منها منغرسة في النفوس.

وينطبق الأمر على الحالة العربية التي خضعت عبر التاريخ إلى نفس العقائد والمؤسسات والقوانين عبر قرون إلى جانب الانتماء، وهو ما يفسر كثيرا من ردة الفعل للجماهير العربية، تجاه جميع الصور الإيحائية الموجهة إليها من الطامعين، كما هو الحال من تركيا منذ بداية الألفية الثالثة.

1

الهلوسات الجماعية للمخدوعين نراها على صفحات التواصل الاجتماعي، فهناك مثال جرى تداوله مؤخرا، سواء كان مدفوعا أو عبر اقتناع، يروي جانبا من قصص المخدوعين، فأحدهم على حسابه وضع صورة من الطائرة لآيا صوفيا والممرات المؤدية إليها مليئة بالمصلين في مواجهة صورة للكعبة وحولها بعض الحجيج، في مقارنة باطلة تتجاوز العقل والمنطق، وتغادر الظروف والواقع، وتجافي غرض الدين الحقيقيَّ في الحفاظ على الحياة. لكنها مزايدة تؤكد الهلوسات الجماعية بمبررات ساذجة لصناعة الأوهام والأساطير في عقول الجماهير.

فتركيا ليست مستقر الدين ومستودعه، والسعودية لم تفرط فيه عندما حمت حياة الناس من وباء كورونا، والصورة المتداولة نموذج عن الخداع واستخدام الدين في الصراع السياسي.

الجماهير منومة مغناطيسيًا

أتخيل "شاركو" أو "فرويد" ينظران ليروا الجماهير العربية المخدوعة، تعود إلى طريقتهم الأولى في الخضوع الطوعي للتنويم المغناطيسي، فالماضي عند الجماهير غالبا ما يكون أقوى من الحاضر.

الدعاية باستخدام العقائد الإيمانية الجماعية أسلوب قديم، وتستغل العدوى بالتحريض، كما فعل مراقب الفرقاطة في قصة "جوليان فليكس" مع الطاقم.

الأعمال الناتجة عن العقائد الإيمانية يتوقف عندها التفكير النقدي، وتنعدم معها أسباب المنطق، ولهذا السبب تستخدم الدعاية الصور الموحية والمجازية والرموز أو لغة الشعارات البسيطة والقاطعة التي تفرض نفسها دون مناقشة.

ساهمت الأنظمة العربية عبر عقود في إفساح المجال لغزو وخداع الجماهير عندما خذلتها، وقهرتها، وروضتها بالماضي الذي يستعيده الطامعون اليوم للنفاذ إلينا، فما يحدث اليوم صنيعة الأمس، والرشادة لهذه الجماهير المخدوعة لا تأتي مصادفة، بل بعمل حقيقي، يعتبر الجماهير شريكا وليس متفرجا، والخداع يكشفه العدل والحكم الرشيد.

هذه المواقف التي تتخذها تركيا وتحاول صبغها بالصبغة الأخلاقية أو الدينية هي سبيلها لتحقيق مصلحتها الأناضولية، وليس تمكينا للإسلام أو نصرة الشعوب المظلومة، بل رغبة في استعادة الإرث الإمبراطوري والمجد الغابر في المنطقة.

في الحلقة المقبلة.. مشاهد ومرامي الخداع التركي

اقرأ أيضاً الحلقات السابقة:

علاء الغطريفي يكتب: المسألة التركية "1".. لماذا تكره العرب؟

علاء الغطريفي يكتب: المسألة التركية "2".. نعادي قوميتكم وعبدالناصر أيضًا!

علاء الغطريفي يكتب: المسألة التركية "3".. لدينا مياه العرب!

علاء الغطريفي يكتب: المسألة التركية "4".. الدين "البوريك"

إعلان