إعلان

"بوركيني" ولا "تغديني".. في أصول التسلية

الدكتور هشام عطية، عميد كلية الإعلام

"بوركيني" ولا "تغديني".. في أصول التسلية

د. هشام عطية عبد المقصود
06:58 م الجمعة 24 يوليه 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في وسط هذا العالم المليء بالأحداث صعبها ويسيرها، المهم منها والأقل إلحاحًا، قريبها وبعيدها، يتفرغ قطاع واسع من المصريين قليل منهم من المعنيين والأكثرية من غير المعنيين؛ ليجعلوا من الجدال حول زي البحر المعروف بـ"البوركيني" والسماح به من عدمه على بعض الشواطئ مجالاً للجدال وملء الزمن المتاح، وعلى مدار التوقيتات وبثًا حصريًا، يدلي فيه بالقول والموقف كثيرون، فيغري ذلك آخرين؛ لتنتقل عدوى التعليقات فتكون خطابًا جماهيريًا شاغلاً وربما مسليًا أيضًا، أبرز ما فيه أنه يمنح مساحة للقراءة والتحليل لذهنية بناء المواقف ومرجعياتها ومنطلقات التمترس في بعض ما لا يلزم ولا يستحق ذلك، ولكنها طبائع البشر عندما يظنون أنهم قد فرغوا لما يشبه ذلك، وهو على أي حال ما قد حدث.

تبدو غرابة هذا الجدال المحتدم والمتصاعد والذي اجتذب إلى ساحة إغراء نقاشاته بيسر مدهش فئات كثيرة وتعددت موضوعات النقاش بين توجه دع "البوركينيين" يستمتعون وحيث الشواطئ للجميع، وبين توجه يقول بضرورة وجود اشتراطات للزي حفاظًا على تقاليد الشواطئ وخصوصياتها، وحيث معظم هؤلاء المتجادلين بصلابة يجتمعون معًا في انسجام داخل سياق آخر يستنكرون فيه تمامًا نزول بعض السيدات والأطفال البسطاء إلى البحر بملابس البيت، ليس تعمدًا منهم، ولكن من واقع أنها المتاحة ولا يملكون ترف البوركيني واللا بوركيني أصلاً، وهكذا فالجدال يدور غالبًا بين مساحات رفاهية الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة كما يحمل تحليل المواقف ذلك.

اتسع النقاش وانتقل من منصات التواصل الاجتماعي إلى مواقع الصحف وشاشات التليفزيون؛ ليشغل مساحات وأوقات كبيرة، ثم ليرتد محملاً بكل هذا الصدى إلى منصات التواصل، وليكون ذلك "تريند" النقاش والأولوية، وساحة جدال حامية تستطير شرارات لهيب نقاشها الحر لا يفلت أحد من رذاذه منجذبًا، فتحلو الأوقات به كمساحة من المتعة والتسلية في عصر أزمة الـ"كورونا" وأخواتها.

النظر لحالة الجدال وتناول هذا الشأن دال على هوس الاستقطاب ونزوع البشر إلى وضع المواقف في قطبين، حالتي تنافر وحيث يبدو أنه لا مساحات تستطيل بينهما ويراها المحتدون، سيحمل قسم كبير من ذلك الجدل تعبيرًا فذًا عن مسارات الهروب من الضغوط نحو ما لا يلزم وما لا يزعج، مسكنات بشرية معتادة في تاريخ الحياة، وحيث سيطيب لكثيرين استمتاعا الدخول إلى حيز هذا الرأي المفتوح الذي لن يضير في شيء ولن يؤثر في شيء ولن يؤدي أيضًا إلى شيء.

وحيث سينتهي الموضوع كله إلى مجال تفكه وسخرية واسع تعلو كبالونات ملونة هازئة من كل هذا الاستقطاب؛ ولتصنع بعضًا من عادات المصريين في التعامل مع الأحداث.
ما يهمنا أنه تتوه كثير من البديهيات البسيطة في خضم شغف تدافع الموقفين الحديين بوركيني/لا بوركيني، وحيث سيتوسل كل فريق بحجج متاحة أو مستجدة عن الحق والحرية والثقافة والجمال والفلسفة والقانون، وسيبهرك ذلك تمامًا.

وسيشهد كل ذلك الجدل عزلا وفرزًا وتجنيبًا للقسم الأعظم من عموم المصريين البسطاء، والذين يستوي عندهم كل ذلك، والذين بتلقائية جمة يتسامحون مع كل من البوركيني/ واللا بوركيني وما سواهما وما بينهما، وحيث يتقبلون أن تمتلئ شواطئهم – تلك التي صارت مسرحًا لسخرية الطبقة الوسطي وشرائحها باعتبارها "بلدي قوي يا حسين" - بمشاهد صواني وأواني الطعام وملاءة سرير تنتصب كخيمة تظلل من صحب أسرته في يوم قائظ؛ طلبًا للراحة، سيتم إقصاء كل هؤلاء وغيرهم في نقاش المترفين وأشباههم ومستلبيهم ومقلديهم.

سينسى المتجادلون رفاهية أن أمامهم إتاحات كثيرة من شواطئ تتعدد طبقاتها، منها تلك التي تقبل البوركيني وأخواته، وتلك التي تتحفظ عليه، وثالثة تجمع بينهما في خير، وأن لهم حق الاختيار بحيث لا يزعجون بعضهم ولا يفرضون أنماطهم دون تحديات مقيتة وفرض ذوق بالقوة.

في إطار شغف الكلام، ستتوه القاعدة البسيطة أنه يجدر على الجميع أن يتواجد في مساحتهم وفي نطاق عدم فرض نمطهم الفردي على المجموع العام، وألا يصر على صنع تحديات وهمية فارضا نمطه، وأن يدخل مؤذيًا ومتأذيًا أيضًا في سياق يعلم قبل كل شيء أنه لا يشبهه.
سيهدأ كل ذلك الجدل ويخفت وأيضًا دون حسم، وستعرف أنه من قبيل سلوك البشر عبر الزمان، وبعض من تلهى لا يضير.

إعلان

إعلان

إعلان