"سن العجوز" وعشوائية حياتنا

معركة مصر الحقيقية بكل تأكيد هي العشوائية. عشوائية التفكير، عشوائية القرارات، عشوائية خلط السياسة بالدين، عشوائية الإنجاب، عشوائية التعليم، عشوائية سوق العمل، عشوائية المواصلات، عشوائية الطرق، وعشوائية كل حاجة وأي حاجة.

والعشوائية مريحة ولطيفة وظريفة إلى أبعد الحدود! وقلما تبحر الخبراء أو أولى العلماء "العشوائية" كأسلوب حياة حقها في البحث والتحليل، أو كونها أكثر شيوعاً لدى شعوب دون أخرى، أو قبولاً لدى مناطق أكثر من غيرها. لكن نظرة سريعة على أحوال مصر على مدار عقود كثيرة مضت تكفي أن تنبئنا بأن اعتناق العشوائية أسلوب حياة أشبه بأجدعها مخدر للأعصاب. تشكو الأسرة فقراً وعوزاً، فتنجب بدل العيل عشرة ليكونوا رؤوس أموال يتم تدويرها في السوق.

سوق العمل التي تناسب العيال العشرة لا بد أن تكون عشوائية حتى تقبلهم وتستوعبهم. وبالتالي، يجري استيراد ملايين التكاتك لتخدم ملايين البشر الذين تم إنجابهم بطريقة عشوائية، ويقودها أولاد هم رؤوس أموال بشرية عشوائية، وتعمل التكاتك في مناطق تم بناؤها بطريقة عشوائية لتستوعب حركة الهجرة الداخلية العشوائية التي تركت مدناً وقرى تم التعامل معها على مدار عقود بعشوائية؛ من حيث قرارات التنمية والتطوير والتحديث، فتم بناء بيوت عشوائية، يسقط بعضها بطريقة عشوائية، ويسكن ما يتبقى منها سكان يقيمون فيها ويتعاملون فيما بينهم بطرق عشوائية، وتروج أنواع التجارة العشوائية فيها، حيث يشتري أحدهم بضائع عشوائية من تجار متخصصين في استيراد المنتجات العشوائية ويبيعها لسكان المنطقة العشوائية بطريقة عشوائية.

وحين كانت الدولة تقرر أن تظهر عيناً حمراء أو تبرز قبضة حديدية بين الحين والآخر، كانت ترسل وحدة أمنية عشوائية لتتم مصادرة بضاعة عشوائية بطريقة عشوائية أو هدم عمارة عشوائية، ثم تعود أدرجها إلى مواقعها لحين صدور قرار عشوائي آخر، ويعود أهل المنطقة العشوائية لسابق حياتهم العشوائية أيضاً.

وفي هذا السياق العشوائي، تظهر أنظمة صحية عشوائية لعلاج هذا التعداد العشوائي بطريقة تراعي هذه الخصوصية العشوائية. وحيث أن الدولة كانت قد غضت الطرف، وأغمضت عينيها عما يجري من عشوائية، فقد سمحت أيضاً بحلول عشوائية لكنها جهنمية لحل ما يواجهه سكان العشوائيات من مشكلات.

مستوصف "نور الحق الإسلامي" ومدرسة "أهل السنة الإسلامية" ونادي "السلف الصالح" الاجتماعي وزاوية "كله على الله" جميعها تم بناؤها بطريقة عشوائية وتسخيرها لسد الفجوات الكبيرة الناجمة عن عشوائية الدولة على مدار عقود. وبطريقة تبدو عشوائية، لكنها في الحقيقة بالغة الحنكة محكمة التخطيط، تم الإطباق على رقبة العديد من التجمعات العشوائية التي تحولت إلى مليونية في غمضة عين، حتى أصبحت الملايين واقعة بين شقي رحا: إما خلطة الدين من جهة والسياسة والحياة من جهة، أو المضي قدماً في حياة منزوعة المحتوى حيث لا أمل في غدٍ أفضل أو قدرة على يوم أحسن. قلة قليلة فقط هي من نجت بنفسها من براثن المنظومة العشوائية التي أطبقت على مفاصل مصر على مدار عقود.

اليوم، وعلى الرغم مما يحيط بنا من أزمات ومشكلات تتراوح بين أزمة سد وحدود في الغرب وتربصات من الشرق والشمال والجنوب ونصيبنا من الوباء الذي ضرب الكوكب ونصيبنا المسبق من الشرق الأوسط الجديد وفوضاه الخلاقة وثمار عقود من عشوائية القرارات والسياسات الداخلية ما أسفر عن أجيال ربما تكون متعلمة لكن البعض منها تنقصه الثقافة والاطلاع والأفق الواسع، تقفز مصر خطوات للأمام.

وما يجري في ملف العشوائيات من سرعة إنجاز صاروخية وعمليات إحلال وتجديد لتصبح مناطق لا تصلح فقط للسكن الآدمي بل للثقافة والفكر والبناء والتنمية الآدمية يعني أننا وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح.

وحين يقول الرئيس السيسي تعليقاً على تطوير منطقة "سن العجوز": "من فضلكم ما تنسوش الصور دي (مشيراً إلى صور المكان قبل إعادة بنائه بشكل آدمي)، وما تسمحوش إنها تتكرر تاني"، فإن في هذه الكلمات ألف رسالة لمن يعي.

عدم تكرار ما جرى من كارثة يعني مكاناً آدمياً تعيش فيه الأسرة المصرية، يسمح بتفكير غير عشوائي، واتخاذ قرارات غير عشوائية، وتعليم جيد، وصحة مدروسة، وعمل ذي إنتاجية، وسوق عمل تبني اقتصاد دولة وتدعمها، وحقوق مواطن يحصل عليها "تالت ومتلت" وواجبات ينفذها أيضاً "تالت ومتلت".

إغلاق ملف المناطق العشوائية بتحويلها إلى مناطق سكن آدمية يعني فتح ملف بناء الإنسان المصري على أسس غير عشوائية.