لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الفشل الذي صنع مجد المتنبي والتوحيدي

د. أحمد عمر

الفشل الذي صنع مجد المتنبي والتوحيدي

د. أحمد عبدالعال عمر
09:00 م الأحد 26 يناير 2020

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

من مفارقات القدر في حياة البشر أن يُريد الإنسان لنفسه أمرًا، ويُخطط له، ويعمل جاهدًا لبلوغه، ثم تأخذه مُخططات وتدبير الله لأمر مختلف تمامًا، فيشعر أنه من الخاسرين، ثم تُثبت له الأيام أن هزيمته وخسارته الحقيقية كانت فيما تصوره نصرًا، وأن نصره الحقيقي قد تحقق فيما تصوره هزيمة وخسارة.

وقد تحققت تلك المفارقة على أوضح ما يكون في حياة الشاعر العربي أبي الطيّب المتنبي (303هـ - 354هـ)، والفيلسوف والأديب أبي حيان التوحيدي (310 - 414 هـ)؛ فكلاهما عاش في أوهام مُضللة تتعلق بأهمية لعب دور سياسي والقرب من السلطة. وكلاهما أُقصي بعيدًا عن السلطة، فعاش مغتربًا وساخطًا على الحياة والناس.

وقد أدى بهما هذا الفشل في ميدان السياسة إلى الإحساس بالاغتراب عن سياقهم، والسخط على واقعهم، ثم التفرغ لإنضاج موهبتهم الفنية، وصناعة مجدهم الأدبي، فبقيت أسماؤهم ومؤلفاتهم، وذهبت رياح الأيام بحضور وأسماء رجال السلطة والسياسة في عصرهما.

وفي هذا المعنى، يقول الراحل الدكتور إحسان عباس في كتابه "النثر الفني في القرن الرابع الهجري" عن المتنبي والتوحيدي: "كلاهما قلق متعاظم يريد أن تُبلغه عبقريته الأدبية أقصى الدرجات في الحياة السياسية، ولما لم يجد من يُناصره في ذلك، تفجر أدبه حقداً وثورة. ومن ثم ملأ التوحيدي النصف الثاني من القرن الرابع صراخاً وعويلاً، بعدما ملأ المتنبي النصف الأول من القرن هديراً وزئيراً".

وهذا التحليل يُعطينا مفتاحًا لشخصيتهما، ومدخلاً لفهم حياتهما وكتاباتهما، ويصورهما في صورة الإنسان الطموح الذي ظن أنه يملك كل مقومات النجاح ونيل المكانة السياسية المميزة والقرب من السلطة، ولكن صرعته أمراض الواقع والحياة السياسية والأدبية، وحِيل بينه وبين حلمه وطموحه، ليتصدر المشهد دونه أشباه السياسيين والأدباء.

غير أن هذا الأمر لم يكن كما بدا لهما في حياتهما فشلًا وخسارة؛ فقد أثبتت الأيام أنه كان نجاحًا ومكسبًا كبيرًا لهما وللثقافة العربية والإنسانية، لأنهما لو نجحا في ميدان السياسية لخسرا المجد الأدبي الأكثر حضورًا واستمرارية.

وهذا ما أكده الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه "مطالعات في الأدب والحياة"، عندما كتب يقول عن أبي الطيب المتنبي، وهو القول الذي ينطبق كذلك على أبي حيان التوحيدي: "الحقيقة أن المتنبي جهل نفسه، ولم يكن صادق النظر في أمله، فأضله الأمل الكاذب عن كنه قدراته وطبيعة عظمته، وأحس في نفسه السمو والنبالة، فظن أن السمو لا يكون إلا بين المواكب، وأن النبالة لا تصلح إلا لذي تاج وسلطان وصولجان وعرش وإيوان، فطلب الرجل الملك جادًا في طلبه، وجعل الشعر آلته ريثما يبلغه، فبقيت الآلة الموقوتة، وذهبت الغاية المطلوبة. وظل يسعى طول حياته إلى شيء، وأراد الله به شيئًا آخر. فأحسن الله إليه من حيث أراد هو أن يسيء إلى نفسه، فهو اليوم أظفر ما يكون خائباً، وأخيب ما يكون ظافراً؛ ليس بملك ولا أمير ولا قائد ولا صاحب جاه، ولكنه فخر العرب وترجمان حكمتهم، والرجل الفرد الذي نظم في ديوان واحد ما نثرته الحياة في سائر دواوين التجارب والعظات".

وفصل المقال "أن كل امرئ مهيأ لما خلق له"، وعليه أن يعرف ذاته، كما تقول الحكمة اليونانية الشهيرة، ويستكشف مواهبه الأصيلة، ويستثمر فيها بما يُثري وجوده، ويصنع نجاحه الحقيقي ومجده، فلا تُضلله الأوهام والأحلام، ولا تخدعه التصورات الزائفة عن الذات، لتصبح خسارته فيما ظن أنه نصره، ويصبح نصره فيما ظن أنه خسارته.

إعلان

إعلان

إعلان