لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"حدث في برايتون".. رواية عن فتاة شرقية تمس الغرب من بعيد

د. عمار علي حسن

"حدث في برايتون".. رواية عن فتاة شرقية تمس الغرب من بعيد

د. عمار علي حسن
09:00 م الأربعاء 05 يونيو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لم يشأ د. سامح فوزي أن يغوص عميقا في تفاصيل الحياة الغربية، مثلما فعل كثيرون ممن كتبوا عن مجتمعات لم يُحِط أحدُهم خُبرا بما تحت ظاهرها من ثقافات وأحوال وأشواق، فلجأ في روايته الأولى "حدث في برايتون" إلى حيلة جيدة، أو ربما أن أصل حكايته، الذي دفعه للدخول إلى عالم السرد ساقه في طريق هذه الحيلة، فجاءت بطلته مصرية، حصلت على منحة بجامعة ساسكس البريطانية، وهي تلك الجامعة التي حصل منها المؤلف على الماجستير في التنمية السياسية، وذهبت إلى مدينة برايتون الشاطئية، لتواجه حياة غير مألوفة لها، صدت عنها في البداية، ثم لم تلبث أن انخرطت فيها، متخففة من القيود التي جاءت بها من قريتها العزلاء الغافية المنسية.

وصف الكاتب الطقوس والنفوس الغريبة عليه من الخارج، بينما تمكن من أن يغوص في أعماق بطلته "منة الله"، التي يعرف أكثر عن طريقة تفكيرها، ورؤيتها للمجتمع والعالم، والصورتان النمطيتان المستقرتان في رأسها عن الغرب، واحدة باهتة رسمها لها أستاذها في الجامعة، الذي ساعدها في الحصول على المنحة، وهي الغرب العقلاني المتقدم، الذي يقدس الخصوصية والحريات الفردية، والثانية داكنة غليظة، وهي الغرب المنحل المتغطرس الذي لا يرى إلا نفسه، والذي يجب تجنبه على قدر الاستطاعة.

كانت الصورة الثانية هي الغالبة في رأس البطلة، لكنها راحت تتساقط تحت قدميها، حين أدركت أن مظاهر المرح والتحرر التي تراها حولها في شباب من عمرها، فتيات وفتية، لا تمنعهم من التفوق الدراسي، والنظرة المتصالحة إلى الآخرين، والمسارعة إلى نجدتهم، ومد يد العون إليهم.

لكن الكاتب لم يتوغل إلى أحشاء هذه المظاهر، ويفكك معانيها ومراميها، إنما ظل طيلة الوقت يمسها من أطرافها، معنيا بالدرجة الأساسية في رصد انعكاساتها على بطلته المغتربة المنطوية التي تتسرب الحياة الجديدة إلى نفسها وعقلها رويدًا رويدًا.

وبدا في هذا أشبه ببطلته التي رأت الأمور من الخارج، ما ينعكس في ذلك الحوار الذي دار بينها وبين سائحة أمريكية عند مزار يحوي قبر نابليون، بدأته "منة":

"يبدو أنه قصير القامة.

ردت الأمريكية بنبرة لا تخلو من تشفٍ، نال ما يستحق، نفي ثم مات بالسم.

استغربت كلام السيدة التي لم يكن نابليون عدوا لها، أو لبلادها، فقالت:

ـ لكنه كان قائدا عظيما في زمانه.

لم يعجب الأمريكية الرد، فاستطردت بتلقائية:

ـ لكنه احتل بلدك.

ابتسمت، ولم ترد".

في الرواية الصادرة عن سلسلة روايات الهلال العريقة، يتحدث الراوي، وفق "ضمير الغائب، عن آخرين، الأول قريب يتمثل في بنت الثقافة المختلفة في الدين، والثاني يتمثل في كثيرٍ مختلفين في الثقافة والمذهب الديني من المسيحيين الغربيين. لكنه في الحالين، أخذ المسافة التي ترسم الحدود بين الذاتي والموضوعي، وهي مسألة يفهمها ويدركها الباحثون، والكاتب منهم، وليس من أهل السرد المحترفين الذين يوقنون بأن الأدب ذاتي، شأنه شأن الفلسفة، وأن هذا يجب أن يكون واضحا.

لكن موضوعية الكاتب لم تمنعه من امتلاك القدرة على إنتاج نص فيه الكثير من الفن، وقدرة على السرد، وصناعة التشويق والجاذبية، عبر جمل مقتصدة، متخففة من حمولات البلاغة، وذاهبة إلى المعنى من أقرب طريق، لترسم ملامح حكاية تقليدية.

ويبدو الشاب المصري "باسم" الذي كان يدرس الماجستير في الجامعة نفسها لمدة سنة واحدة، هو النقيض من "منة"، فهو ليس ضحية الفقر والخوف مثلها، إذ ينتمي إلى طبقة مستريحة، وفرت له ظروفه الحياتية فرصة ليعيش حياة منفتحة، جعلته أكثر قدرة على التفاعل الخلاق مع البيئة الاجتماعية الغربية. لكن تفاعله هذا يظل في الرواية أمرًا من الخارج، فالكاتب وصف حالته هنا، في بلده مصر، ولم يُعن بأن يوضح لنا كيف يخالط الطلاب الأوروبيين أو الغربيين في العموم، لأنه من الأساس لم يشأ أن يكتب إلا عما يعرفه جيدا، وتلك نزعة أو سمة ضرورية في أي عمل فني يسعى إلى الصدق.

وفي ركاب هذا يعرض الكاتب على مدار روايته حكايات سريعة مبتورة عن شخصيات من دول مختلفة تأتي وتذهب للدراسة في جامعة "ساسكس" وغيرها، في عرض وصفي، لا يأخذ طريق "التوالد الحكائي" المتعارف عليه في السرد الروائي عموما، لكنه بصيغة تقريرية، يبرهن بها على وجهة نظره، ويحفر مجرى أعمق لبطلته التي تتغير ببطء.

ويبدو الكاتب في وضعه هذا أشبه ببطلته التي رغم تحولاتها فإنها ظلت على الشاطئ، تمس الأشياء مسا خفيفا، وتراها من بعيد، وهنا يقول عنها "عرفت طرق المدينة في الليل، لم ترتَدْ ملهًى ليليًا، أو تدخل بارًا، لكنها شاهدت تفاعلات الحياة من خارجها أثناء ممارسة رياضة المشي".

فحتى الأشياء التي تزول فيها الحواجز بين الطبقات والثقافات والجهات والديانات تعاملت معها من الخارج، فـ "قصص العشاق التي لا تنتهي كانت تزعجها في البداية، ثم اعتادت عليها، والأهم تعودت أن تدركها بعقلها لا بمشاعرها"، وحتى بعد أن أمضت في برايتون ثلاث سنوات حتى حصلت على الدكتوراه، وصارت إنسانة أكثر عملية وعقلانية وأقل عاطفية وحساسية حيال الأفكار والبشر، ومترفعة عن الخوض في التفاصيل والأحاديث السطحية مع صاحباتها وصديقاتها وزميلاتها القدامى، حين تعود إلى قريتها في بعض الإجازات الدراسية، فإنها "ظلت حريصة على الجدار الزجاجي الشفاف الذي أحاطت به نفسيتها، ترى الآخرين، ولا تسمح لهم باختراقها"، لكنها حين انتقلت للعمل بالقاهرة، واختلطت بطبقة مختلفة ماديا وثقافيا، اكتشفت أن أبناءها يعيشون حالة منفتحة لا تقل عن تلك التي كانت تتجنبها في برايتون، ووجدت نفسها مضطرة إلى السكن وحيدة في شقة بالتجمع الخامس، بعد أن تقدمت في الوظيفة والعمر والخبرة، وإن ظلت على بعض حالها القديم مستسلمة للصور النمطية التي استقرت في ذهنها عن العلاقة بين قيم الشخص ووظيفته، فالقاضي لديها عادل، والأستاذ الجامعي مستنير، والطبيب رحيم، والشرطي منضبط... إلخ.

وأدركت خطأ تصورها حين ارتبطت بأستاذ جامعي؛ تبين لها أن ما يفعله يتناقض تماما مع ما كان يقوله لها أيام الخطوبة، فطُلقت منه، ثم أنجبت بعد طلاقها ابنة سمّتها "مريم" رتبت لها حياة مختلفة، فاستقدمت مربية من إثيوبيا، وأدخلتها مدرسة أجنبية، و"لم ترد لها أن تعيش ثقافة الخوف لسنوات قبل أن تسترد وعيها بذاتها المستقلة".

بهذا تحضر الأفكار في الرواية سابقة على الفن، في بعض المواضع، وتبث في ثنايا السطور، التي تصف المواقف والأحوال والتصرفات، ولأن الكاتب لا يريد أن يكشفها حتى لا تكون زاعقة، فتفسد الجوانب الجمالية، وتزيح الرواية من السرد الحكائي إلى المقال أو الدراسة أو التصور الاجتماعي، فإنه عالجها من الخارج أيضا، وجعلها تدور بالأساس في مجتمعنا الشرقي، وليس الغربي الذي لديه مشكلات أخرى، وهو إن كان قد قدم نموذجًا سياسيًا جيدًا، فإن نموذجه الاجتماعي يعاني من عيوب وثقوب كثيرة ومفزعة أحيانا، وهي مسألة غض الكاتب النظر عنها، أو أتى على ذكرها سريعا، مقابل الإمعان في مثالب المجتمع المصري، وهي حقائق لا يمكن إنكارها، لكن الكاتب انخرط فيها، لأنه يعرفها، ويكابد منها، بينما لم يأتِ على المثالب الاجتماعية الغربية بالقدر الكافي؛ لأنه لا يلم بها إلماما كافيا، وهو إن كان قد قرأ عنها، فإن القراءة في هذا قد تكفي لباحث في علم الاجتماع، لكنها لا تكفي لكاتب روائي، عليه أن ينفعل بما يراه، ويعاني منه، ويتفاعل معه، وبذا يكون قادرا على الكتابة عنه.

فحتى بطلته لم تُحِط بكل ما في هذه المدينة الغربية رغم هوسها بها، وحرصها على أن تذهب إليها مرة كل عام، تدور في شوارعها، وتطالع وجوه العابرين، ولافتات المحلات، ومباني الجامعة، وشاطئ البحر.

وإذا كان الكاتب قد ذكر في مطلع الفصل الثامن جملة دالة تقول "الثقافة لها بصمة من الصعب محوها، لكنه ليست بمستحيل"، فإن السؤال الذي يطرح هنا:

هل من الحصافة محو الثقافة التي نشأ عليها الفرد تماما؟

وهل هذه الثقافة، في أي مجتمع، لا تنطوي على شيء إيجابي؟

وهل كل قديم وتقليدي شر؟ وهل يمكن أن يموت كله؟

إن عدم وقوف الرواية عند هذه الأسئلة جعلها في بعض المواضع أقرب إلى الروايات الاستشراقية، أو رواية ما بعد الاستعمار، التي لا تخلو من استلاب حيال المركزية الأوروبية. وهو في كل الأحوال "استلاب خارجي"؛ لأن أي مجتمع لا يمكنه أن يتخلى عن روحه، وإلا كانت المجتمعات الغربية قد تخلت عن أساطيرها القديمة.

والفيصل في كل هذا هو كيفية خلق وتطوير القيم الإيجابية، ومنها قيمة الاستقلال والانفتاح التي ركزت عليها الرواية، دون التخلي عن الجذور والسياقات والثقافات التي لا يمكن- ومهما تكن أحوالها- أن تعجز عن إنتاج ما هو مفيد.

إعلان

إعلان

إعلان