لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

"دفتر بفرة".. من الحقول العفية إلى الزنازين المظلمة

عمار علي حسن

"دفتر بفرة".. من الحقول العفية إلى الزنازين المظلمة

د. عمار علي حسن
09:02 م الأربعاء 15 مايو 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يمد أبي يده إليَّ بقروش معدودات، وينظر في عينيَّ جيدًا، وكأنه سيلقي وصية للزمن الآتي، ثم يقول:

ـ هات علبة دخان ودفتر بفرة.

وأسمعه قبل أن تصل قدميَّ المسرعتين إلى عتبة الدار يلاحقني:

ـ وهات لك حلاوة بالباقي.

لكن لف السجائر لم يكن يروق له أكثر إلا في الحقل، حيث يجلس القرفصاء بعدما يضنيه انحناء ظهره فوق الفأس التي تقضم الأرض في نهم شديد، ويلتقط علبة الدخان، المصنوعة من صفيح مقوى، من جيب الصديري، ويفتحها على مهل، ثم يخرج هذا الدفتر الصغير ذا الأوراق الرقيقة، التي تكاد تذوب بين أصابعه، يأخذ أحدها، ويفرده جيدًا، ثم يقبض على بعض الدخان من نوع "حسن كيف" ويمدده داخل الورقة ويسويه حتى يصبح خيطًا متماسكًا، ويطوي فوق الورقة بعناية فتبرم بين أصابعه سيجارة لف، يدوس على طرفها الأخير حتى لا يتسرب الدخان منها، ثم يقضم بشفتيه ما تبقى من الدفتر، وينفخه بعيدًا. ينظر إليها في يده برهة، ويدفعها إلى فمه، ويشعل عود الثقاب، ويسحب منها أنفاسًا متلاحقة حتى تكان أن تلسع شفتيه، فيرمي ما تبقى منها، ويدوس عليه في الأرض فينطفئ تمامًا.

كنت أحيانًا أغافله وأفتح العلبة، وأخرج هذا الدفتر الغريب، أفتحه وأمرر أصابعي على أوراقه الناعمة، وأتخيل لو كانت كراريس المدرسة قد جهزوها من هذا الورق، وطرحوها أمامنا على المقاعد، وطلبوا منا أن نكتب فيها دروسنا.

لم يكن بوسعها بالقطع أن تتحمل ضغط أصابعنا التي كانت تتكئ على حروفنا الأولى، فسن القلم الرصاص أو الجاف كان كافيًا لخرقها، فتصير معنا أشبه بغربال رقيق، لا يلبث أن يتمزق تمامًا، لتتساقط الحروف على الأدراج، وتحت أقدامنا الصغيرة.

لهذا تعجبت حين قرأت في مذكرات السجناء السياسيين كيف أنهم قد استعملوا دفاتر البفرة في كتابة يومياتهم الحزينة؟ وكيف استعمله بعضهم قطنًا يمسح به قطرات الدم التي انبجثت من جرحه الطازج جراء التعذيب الوحشي؟ بعضهم تمكن أن يكتب على مثل هذه الأوراق رواية أو كتابًا كاملًا، قام بتهريبه مع زائريه، فأعطوه لمن جمعه، فخرج مؤلفًا قرأه الناس، ليتعجب السجان، كيف لمسجون أن يصدر ما يصف أحواله في الزنازين العتيقة؟

طالما تخيلت أيا من هؤلاء السجناء، وهو يترك عينيه تمرحان في الغلاف الملون لدفتر البفرة، ليقرأ على مهل الحروف التي تشرح نوعه، واسم المصنع الذي أنتجه، ولا تنسى أن تزعم أنه أحسن الأنواع الموجوة في سوق المدخنين.

فأنا كنت أفعل الشيء نفسه، حين أخرجه من وراء ظهر أبي، وأملأ عينيَّ من ألوانه البديعة، وأمد أصابعي في حذر لأخطف بعض أوراقه، وأدسها في جيبي، محاولًا أن أكتب فيها حروف الهجاء، وأرقام الحساب الأولي، وقد أرسم زهرة أو رأس نخلة أو عنزة أتمنى لو تثغو، لكني أخاف أن يصل صوتها إلى سمع أبي، فينتبه إلى ما يجري من وراء ظهره.

كثير من الفلاحين الجدد كفوا عن لف السجائر، فلا وقت لديهم، أو أن أصابعهم لم تعد بمهارة أصابع الآباء والأجداد في التعامل مع أوراق البفرة والدخان السائب، فلجأوا إلى شراء السجائر التي لفتها لهم المصانع، وأسموها "سجائر مكنة" تمييزًا لها عن "اليدوي" التي كان البعض يضعها في مبسم صغير قبل أن يدفعها إلى فمه، وهناك من يسحب أنفاسها مباشرة، لا يحول بينه وبين دخانها المحروق شيء. قلة لا تزال مخلصة لطقوس الزمن البعيد، وبعضهم يقول في ثقة:

ـ لا أشعر بالكيف إلا مع سجائر اللف.

لكن دفاتر البفرة لم تعد تصنع بالغزارة التي كانت عليها، فحرم منها مدخنون لا يرضون عن صنع أيديهم بديلًا، وسجناء يبحثون عمن يدونون فيه خفاء يوميات عذابهم المقيم.

إعلان

إعلان

إعلان