إعلان

روائح البركات.. في محبة الأيام الرمضانية

د.هشام عطية عبدالمقصود

روائح البركات.. في محبة الأيام الرمضانية

د. هشام عطية عبد المقصود
09:01 م الجمعة 26 أبريل 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يجيء شهر رمضان تسبقه روائحه، فيصنع حضوره الطيب في النفس والحياة اختلافًا في التفاصيل اليومية المعتادة إذ يضفي عليها طيب نسماته، وحيث فيه تتنزل الرحمات على العباد سلوكا وسيرة، ويحل ائتلاف الأسر متباعدة الأفراد ليشملها صوم وسحور رمضان ميقاتا واجتماعا وطعاما، ثم بهجة الشوارع وزينتها، ويقين يقر في النفس بأن في الحياة رحابة للبدء من جديد لمن شاء أن يرى ذلك.

كثيرة هي الأشياء والعادات التي عرفناها صغارا في رمضان ولم تبارح قط، ظلت نجمات بها نقتفى سيرة الشهر ونحمله في دواخلنا سيرة للزمان الطيب، ولعل واحدا من أجملها، هو طابور شراء الكنافة، وهو طابور يجمع الأولاد غالبا في ذات المرحلة العمرية بعد العصر، ستلزم مكانك فيه خاصة إذا أردت أن تأتي بها مليئة برائحة الطزاجة ومستمتعا بحالة فورية صناعتها وطقوس طيها ولفها محملة بعبق المسافة نحو البيت، طوابير مليئة بالضحك والفرجة والمؤانسة، الفرجة على دوائر الكنافة حين تصادف سطح الفرن الصغير أو بالأحرى سطحه الساخن بعد أن تكون ثقوب الوعاء المملوء بعجينها قد أخذت في دفعه متدفقا على شكل دوائر كبيرة تصغر رويدا حتى يتم إغلاقها، ثم المشهد الجميل لاستوائها لحظة أن تمتد يد مساعد الكنفاني لتحملها مفسحة المجال لدوائر جديدة تحمل رائحة الخبز الجميل.

لم يكن عصر كنافة محال الحلويات قد استوى وهيمن وصار تقليدا عاما بعد، أو ربما كان الناس يفضلونها في رمضان "كنافة منزلية"، وطبعا لم تكن آلات التسويق قد صنعت تحولات الهروب من ملل الكنافة المألوفة في اتجاه ما أصبح يعرف بكنافة عثمانلي وكنافة المانجو وغيرهما، كل امتدادات الكنافة وتحولاتها الجديدة والتي تمثل اعتداء جسيما على طزاجة عنصرها الأول لم تكن واردة ولا حاضرة بعد، لتهيئ لك طفلا ساخنة محشوة في غير تكدس وقد تخلل مسامها عسل رقيق في حرفة ودون أن يستقر في أسفلها كتلا ثقيلة منفرة، هكذا كانت الكنافة المنزلية تطيب صنعة ومذاقا، مقرمشة السطح بهجة للناظرين.

ويبقى نداء أسريا من رمضان تحفظه ذاكرة الصبا عفيا: "اتفضل معانا رمضان كريم" نداء لكل من يمر قبل أذان المغرب، بل كان يحث الكبار صغارهم على دعوة الغريب في الشارع أو الذى ذهب إلى المسجد منقطعا عن أهله، وحيث تتسع البيوت براحا للصائمين، مطمئنة عامرة بالمودة بشكل يسهل للأصدقاء والجيران والأقارب التواجد، وحيث لا حرج ولا تفكير ولا استعدادات مسبقة مرهقة "الجودة دوما بالموجود"، كان هذا سلوكا تراه كثيرا في البيوت المتجاورة التي اتسعت ببراح المحبة ومودة الناس وبركة الطيبين، ولم يكن يرتبط بذلك شرط ثراء أو وفرة كبيرة في سبل المعايش والحياة، ودون مبالغة في إظهار ما يقدم من طعام وفق ما صار يعرف الآن "بالعزومات"، ربما لأنه تقريبا كانت بيوت الناس في العائلة والجيرة تشبه بعضها كثيرا وكان نمو الناس اجتماعيا يتخذ نمطا هادئا تراتبيا ومنطقيا معا، بما يشبه قانون عدالة الجهد والدأب، وله ارتباط واضح بتحققات في التعليم أو الوظائف ووفق مفهوم صارم عن "الكسب الحلال".

في ظل تلك الأيام لم يكن رمضان محتشدا بإعلانات تبرعات للمعوزين والراغبين في توافر متطلبات الصيام والإفطار، فروح التكافل تسري فتحل المشكلات بدأب ورقي ودون مجاهرة بالعطاء أو مخاطبة المشاعر لجذب البذل، حيث يتم "ستر" الناس وتلبية النقص والاحتياجات بهدوء "ومن غير شوشرة".

تغير كثير من تلك العادات الإنسانية والرمضانية، حيث حل التردد وإعلاء عبء حضور الناس حتى لو كانوا مقربين تقلدا تصنعه خلفيات عقلية بغيضة وفاسدة تعلى منها أفكار عن الحسد وعيون الناس وما شابه، فتباعد الأقرباء والجيران وصار الغرباء كل الغرباء وجوها غير محببة أو مرغوب فيها، وهكذا تغيرت مائدة رمضان أو بحق "مائدة الرحمن" العائلية، ما زلت أتذكر تحيتها وكنت أسمعها من جدى وما زالت في أذني جميلة "البركة في اللمة".. رمضان كريم.

إعلان

إعلان

إعلان