إعلان

ابن رشد وأفكاره التي لا يبليها الزمن

عمار علي حسن

ابن رشد وأفكاره التي لا يبليها الزمن

د. عمار علي حسن
09:01 م الأربعاء 23 يناير 2019

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لم يكن ابن رشد الحفيد شخصًا عابرًا في تاريخ الإنسانية قاطبة، وليس للمسلمين فحسب، فالرجل الذي ولد في إشبيلية ببلاد الأندلس عام 520 هـ 1126 ميلادية، توزع اهتمامه على علوم شتى، فهو فيلسوف وفقيه وقاضٍ وعالم فلك وفيزيائي وله إسهامات في القانون وعلم النفس والجغرافيا، وسليل أسرة وجيهة اهتمت بتحصيل العلم، ومارست الفتوى والتأليف في الفقه والتفسير، وأعمال القضاء.

وتربو شروح ومصنفات ابن رشد الفلسفية والعلمية والأدبية على المائة مؤلف، وصلنا منها ثمانية وخمسون، من أهمها "فصل المقال فيما بين الحقيقة والشريعة من اتصال" و"تهافت التهافت" و"بداية المجتهد ونهاية المقتصد" و"الكليات" و"الكشف عن مناهج الأدلة" و"الضروري في النحو" و"مختصر المستصفى" .

لا يرد ابن رشد كل الحقيقة إلى الدين إنما يجعل للفلسفة دورا مهما على هذا الدرب، لا سيما أنها، على العكس من العقائد، قابلة للتدقيق والتمحيص والمراجعة والاختبار. ويظل الاثنان، الدين والفلسفة أداة مهمة تمكن الإنسان من إيجاد سبيل يسلكه إلى الخلاص البشري.

ويرى ابن رشد أن العلاقة بين الحقيقة والشريعة، أو الفلسفة والدين، هي علاقة اتصال لا انفصال. وبذا فإن الأنبياء والفلاسفة يجب أن يتفقا، وإن كان النبي يقدم رسالته إلى عموم الناس، ليهديهم إلى سواء السبيل، والفيلسوف يوجه رؤيته إلى الخاصة، ويصيغ ما يقوله وعاظ الدين بطريقة أكثر اكتمالا وإحكاما واحتراما للعقل وتجنبا للغرق في المادية.

على هذا الأساس يدعو ابن رشد إلى التفرقة في الدين بين المعنى الحرفي، والمعنى الذي يعوزه التأويل والتفسير، ويكون العقل حَكما رئيسيا في هذه المسألة، فإن بدا لنا أن في القرآن نصا يتعارض مع العقل فعلينا أن نعتقد أن لهذا النص معنى آخر غير المعنى الحرفي المتداول على ألسنة الناس، ويجب علينا أن نبذل كل جهد مستطاع في سبيل تحصيله، دون ضعف حيال عموم الناس، الذين يتمسكون بالمعاني الحرفية ويقبلون القصص والرموز على حالها الوارد في النص القرآني فالعلماء والفلاسفة لهم الحق في أن يروا ما وراء المعاني الظاهرة ، وفي الوقت نفسه ينبغي عليهم أن يعلموا الدين تبعا لمدارك الناس، وعلى قدر عقولهم.

وهضم ابن رشد القسط الوفير من الفلسفة اليونانية، وشرح بإسهاب وجلاء واقتدار الكثير مما تركه أفلاطون وأرسطو، فوافق الأول في أن الفضائل الرئيسة المفضية إلى السعادة أربع هي: الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة، التي لا بد أن يتحلى بها الجميع، الحكام والحراس وأرباب الحرف وعموم الناس.

وقصر ابن رشد الخلود على العقل الجمعي للبشرية، الذي يتطور من جيل إلى آخر، أما عقل كل فرد على حدة فمآله الزوال، من وجهة نظره، وهي الفكرة التي ساهمت في دفع الفكر الأوروبي إلى التحرر خلال القرون الوسطى، خاصة أن ابن رشد شدد على الالتفات إلى التربية الأخلاقية في وجه التدين الشكلي.

وكان ابن رشد سابقا لعصره في إنصاف النساء، حيث أناط بهن دورا مهما في تربية الأجيال، فدعا إلى إصلاح وضع المرأة الاجتماعي، رابطا بين حدوث هذا واستمرار عطاء الحضارة الإسلامية وأنوارها. كما كان سباقا في الدعوة إلى التقريب بين المذاهب التي يراها أصحاب العقول الجامدة والمتعصبون والمتزمتون متنافرة بالضرورة. ولذا لم يكن جورج سارتون مبالغا وهو يؤرخ لمسار العلم في تاريخ البشرية حين قال: "ترجع عظمة ابن رشد إلى الضجة الهائلة التي أحدثها في عقول الرجال لعدة قرون".

وقد اجتمع على معارضة ابن رشد السلطة والكنيسة وعلماء الدين المسلمون المتعصبون. فرجال الكنيسة الكاثوليكية غاظهم رفضه لسلطة رجال الدين، أي دين، وتخوفوا من تحريضه الناس على تحرير عقولهم حيال ما يقوله الوعاظ لهم، فطعنوا فيه، وكفروه، وسبوه بأفظع الألفاظ، ولذا وضعه دانتي في كتابه الشهير "الكوميديا الإلهية" في مقعد من الجحيم.

وأوغر بعض علماء الدين الإسلامي صدر السلطة على ابن رشد، فتم نفيه وحرق كتبه، وهنا يقول ابن حمويه: "لما دخلت البلاد، سألت عن ابن رشد، فقيل: إنه مهجور في بيته من جهة الخليفة يعقوب، لا يدخل إليه أحد، لأنه رفعت عنه أقوال ردية، ونسبت إليه العلوم المهجورة، ومات محبوسا بداره بمراكش".

وقد اتهمه ابن تيمية في كتابيه "بيان تلبيس الجهمية" و"درء تعارض العقل والنقل" بأنه قام بتأويل العقيدة لتوافق فلسفة أرسطو، واعتقاده بالظاهر والباطن في الشريعة، وميله إلى أن البعث سيكون روحانيا فقط، وفتحه باب الاجتهاد حول هذه المسألة، وتعامله بحذر شديد من الأقوال المنسوبة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.

ترك ابن رشد بصمة قوية على رجال دين مسيحيين على رأسهم توما الإكويني، ويهود من أمثال موسى بن ميمون، وهم من أعلام التجديد الديني في الغرب، وكانت لأفكاره مكانة في الجامعات الأوروبية حتى أواخر القرن السادس عشر، لتلعب دورا ملموسا في التمهيد للنهضة الحديثة التي شهدها الغرب.

وفي الشرق الإسلامي، لا تزال لأفكار ابن رشد آثار عميقة في آراء أولئك الذين يتصدون للأفكار المتطرفة والمتشددة، ويحيلون دوما إلى تصورات بشرية قديمة ويعتبرونها مرجعهم الأساسي، لا سيما تلك المناظرة التي تمت عن بعد بينه وبين أبي حامد الغزالي في كتابيهما "تهافت الفلاسفة" و"تهافت التهافت".

إعلان

إعلان

إعلان