لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

في استدامات الحياة اعتياداً

في استدامات الحياة اعتياداً

09:00 م الجمعة 21 سبتمبر 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

الحكاية مُختلفة في سردها بينما قد لا تبدو ضخمة أو فذة في وقائعها وتفاصيلها، والمسيرة تعود لتبدو في نظر الإنسان وجولته عمرا في الكون مجرد تفاصيل جديدة وهامش على متن واحد، وحيث يمكن من مراجعة التجارب أن تتلمّس بيسر دوائر التكرار.

وهكذا علمتنا الحياة أن نعيش باليوم، وسيرى البعض ذلك خطأ منطقيا وفكرا لا يستقيم، ستستجيب حينا وتصمت حينا لتكتشف مع مضي كل يوم أن هذا حقا هو ندى الحياة وزهرها وستستعيد القول أن من مر بيومه عاديا وطيبا "فقد حاز الدنيا" وحقا كفى بها نعمة.

ستحملك موجات الاندهاش تأكيدا وأنت تتابع أو تسترجع الصور القديمة المنشورة لأفراد وأسر وقد ملأوا السمع والبصر في منصات الإطلال على الكون ثم لتتتبع مآل ما حدث لكثيرين منهم وستدرك أن الأشياء لن تمضى بظاهرها البشري كما تعرف أو ترى، وأن هناك ما هو غير مرئي أو مدرك، فتسري أمام عينيك مفردات بيت شعري للجاحظ "رأيت الدهر مختلفا يدور فلا حزن يدوم ولا سرور" وتعود إلى مربع الحمد راضيا أبدا.

وهكذا عندما يتحدث معك البعض بحسابات العقل المحض، لا تجادل كثيرا وتفهم وخذ من ذلك شيئا لكن تيقن تماما أن العقل كامل الحضور فلسفة للحياة لاتزال وسيلة من لازال غضا يصعد مدرجات الحياة لم يصب غايتها ويوثق صلة مع ألفتها، تلك الألفة التى صنعها فهم صيرورة العادي وهو يمضي جالبا تكرارا ظاهريا هي ذاتها مضخة الحياة.

الاعتياد رغم كا مايحيط به من مدلولات سلبية وأوصاف إدانة بشرية، إلا أنه آلة تفسير الحياة الأكثر قدرة على البقاء ولدى البشر كافة، وأنه عبر تتبع خيطه الطويل المتشابك الممتد والملتف حينا سيمكنك أن تدرك تحولات الإنسان وثباته، حيرة عقله واشتطاط وجدانياته، ثم استقرار رغباته وأفكاره أيضا فى الحياة.

هذا الاعتياد هو ما يصنع العلاقات بين الناس والمجموعات البشرية ذاتها ويقربها أو يبعدها، ويصنع حسن الجوار أو العداء، حيث يربطنا بالبشر خيط اعتياد ينمو مع الزمن ليصنع رباطا كبيرا لا ينفك، ثم لا يخضع بعد ذلك للتفسير أو حتى التبديل إلا قليلا، نسكن إليه ونمضى به، فبالاعتياد يصنع البشر الدوائر المختلفة المحيطة بهم أناسا وأمكنة فيصنعون الألفة والاستقرار واستدامات الحياة.
موجبات الاستقرار والاستدامة التي ظاهرها الألفة هي من فعل تلك الطقوس والعادات اليومية التي تتسع فلا تضم البشر وحدهم بل الأماكن والجماد، فكم من مكان نحب صورته وكم من شارع نفضله عن شارع آخر في ذات طريقنا اليومى حتى لو افترضنا تساويا طولا وزمنا، الذكريات التى تنمو في الشوارع أيضا وفي نواحى الأمكنة تصنع حنينها وتصنع غربتها، فتتشكل الظاهرة إنسانية الطابع وهي محبة الأوطان ولو كان الفرد يعيش فى حيز من توافر الرفاهيات ونعيم عناصر الحياة الإستهلاكية.
تلك هى معادلة الاعتدال بين إنسان متعب مرهق من غياب المقومات الأساسية فلا يرى شيئا طيبا فى الحياة وتثقل عليه الأمكنة، وبين من حاز الكثير من تطلعات البشر فضاقت عليه مساحة الرغبات والاشتياقات فاسترجع الحنين لما كان يصنع البهجة ولو كان بسيطا، وتلك هي نفسية البشر لم ينقص منها شئ عبر التاريخ أو يزيد، فضاءات السراب في السعى وبعض أمل يسقي شجرة المضي صعودا في دروبها.
والاعتياد هكذا ليس دوما شيئا سلبيا أو منفرا، سوى عندما يكون غطاء يحجبنا عن إدراك الجديد الشهي والمدهش والمبهج معا. الاعتياد ليس أبدا في ذاته جوهرا سيئا إذ يشكل دائرة انتقاء محكمة عبرت بالتجارب وخاضت المراحل لتصنع دوائر مما ثبت نفعه وتأكدت قيمته وسهلت استخداماته وعظمت فوائده، فيكون كل ذلك الاعتياد مسارا في إنجاز الأعمال وتيسير شئون الحياة.
الاعتياد هو أيضا في بعض جوانبه وسيلة تمنح الإنسان مساحة الابتكار والإضافة إذ بحكم توظيف مرشحات ما تم اعتياده سيلاحظ ويدرك التباينات عن السائد والمتاح والمألوف، فيدخل طائعا أو مضطرا مجال تجريبه واختباره فتنشأ موجودات واختراعات تكون ضمن دائرة الاعتياد ذاتها وهى تتسع بفعل امتداد الزمان وتغير الأحوال والظواهر.
لكن رغم كل ذلك يبقى سؤال بطيء الإجابة، يراود العقل حينا فحينا: ما ذلك العامل المغاير الشارد الباعث للتحول الذى أقلق خمسة ملايين عاما من عمر الإنسان على الأرض اعتيادا وبطئا فى نمو الحياة ومستجداتها - وفق الحفريات والأثر البشرى المكتشف حتى اللحظة – وخلخل استقرار سبل معيشته وطرائق تيسيرها، فأحدث كل هذا التحول في قرون ثلاثة أخيرة فقط، ليبدو وكأنه إنسان قطع تاريخه الطويل أو استيقظ فجأة بعد سبات زمنى ممتد، هذا السؤال: ماذا جرى لهذا الإنسان وما الذى استجد على عقله ووجدانه وأفكاره وعلاقته بالموجودات فصار البشر ووسائط حياتهم وتقنيات تيسير معيشتهم سفرا واستقرارا على نحو ما نعرف الآن؟

إعلان

إعلان

إعلان