إعلان

أن تتبع رائحة الزهر .. في مقامات النضج

أن تتبع رائحة الزهر .. في مقامات النضج

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 24 أغسطس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يأتي العيد ليضفي شيئا ما رائقا على وجه الحياة، ملمسا طيبا، انبعاثات دفء الأهل والمحبين، شكل احتفاء الأطفال بفرح يخلو من شوائب ما يسميه البعض خبرة النضج أو "دروس الحياة"، هكذا يكون الفرح سائغا محتشدا بالدهشة والأمل.

يأتي العيد فتصفو شوارع القاهرة لتبدو كأن لم يمسسها بشر قطـ، تطل العمارات شاهقة صامتة وتسكن الشوارع فرارا من ضجيجها المزمن، تذوق طعم ارتياد الأماكن البعيدة بحساب الدقائق وليس الساعات فتفرح قليلا لكن شيئا داخلك يبحث عن أنس الناس .. وهل لهذا السبب نفضل القاهرة مهما شكونا من ضجيجها وزحامها؟ وهل يمكن لنا وداخلنا كل تراث ضجيج البشر هذا أن نتحملها شبيهة بغيرها من مدن تنام مبكرا وتسكن في الظهيرة وتخلو شوارعها في المساء؟.

يمنحنا الوقت في العيد أيضا هدأة لإعادة ترتيب الموجودات من حولنا، ويتشكل ذلك مكتملا في المساء المتأخر تماما، حيث كرسي خشبي يستند إلي جدار داخلي لبلكونة صغيرة تطل على طريق مرصوف وبعض شجيرات تتناثر في غير انتظام، وحيث ما تظنه هدوء الكون مكتسيا توقيت أول الخلق، ثم النظر في اتجاه اللا شيء، فتجلس تحتسي دفء ذكرياتك على مهل، تسترجعها وتعيد ترتيب أزمنتها الفائتات، متحليا بما يضفيه العمر رويدا من حكمة بألا تبتأس وألا تندم وأن تشكل مما ألفت وأحببت دائرة تسعى لتوسع من دائرتها ما استطعت بعزائم الأمل فربما تجود بفرح منتظر.

مجهدة تماما محاولات مطاردة الحزن بعيدا، ثم تكتسي تلك المحاولات زهوها حين يصير حزنا شاحبا مطرودا يهرب بعيدا فتبصر الحياة خالية من مظلة قتامته، مراودة الحزن ستكون حرفة للصبر وتجربة تنمو مع العمر، ستكون ذاتها من موجبات الفرح حين تنجح - تلك المحاولات - في الإبقاء على خط التماس يقظا آملا مستبشرا في الآتي، بينما تزيح في همة كثيرا أو قليلا من حضور هذا الشجن المرهق.
يصنع النضج تشكيلاته، حضورا خاصا محتشدا بالأسئلة التي تتوه إجاباتها أو تراوغ، هى بعض جينات إنسانية لا تنتقل بالتوارث بل ربما بفطرة الإنسان كائنا متدبرا، يحيا في الأرض ويحمل سؤاله الأبدي ويستظل بالسماء ويسعى، ولولا الأمل لما فعل شيئا وانتظر ما هو معلوم حتما وبالضرورة، تطل الأسئلة دون استدعاء وتواجه رجع السؤال الذي يطل صدىً لا يبارح: ما الذي نريد .. ما الذي نرغب وننتظر؟ وما الذي أخذته الأيام وأزمعت في البعد به؟، يظل السؤال شارةً ملازمةً، وتغيم الإجابات لتصبح موجات بحر متسع تذهب وتعود في تكرار لا يحمل الإشارات، لندرك أننا سرنا في دائرة الأيام ومضينا بعيدًا وفعلنا ما حسبناه صحيحًا وبعض ما قدرناه أنه تغلبه الصحة وغير ذلك، فعلناه صادقين أو هكذا كان إحساسنا، خايلنا الوقت وخايلناه ثم تصالحنا، ولكن ظل إحساس مراوغ بأن شيئا ما غائب.
ستنظر في الوجوه متأملا لتدرك أنه قد بدل الصحاب ثيابهم فصاروا أبهى كثيرا، واستطالت قاماتهم كثيرا أيضا لكنهم ما عادوا – إذا ما التقوا صدفة - يدركون ملامحهم الأولى، عابرين طمسوا علاماتهم وهكذا غابوا، ثم إنها الآن مساحة الاشتباك يدخلها من صاروا يُعرفون بذلك اللقب المراوغ "زملاء" وهى كلمة ستدل على كثيرين جدا لن يكون من بينهم الآن من لامسوا فرحتك الأولى، ونظرة الشغف الأولى والأغاني الطازجة الأولى، والكتب القديمة الأولى والكلمات الصداحة المبتهجة وهى تنطلق فلا تتردد أو تقف.
يصنع الإنسان محاولاته الخاصة كائنًا جديرًا بالبقاء فيصطفي وينتقي ويستمر، يصنع ما يجعل الحياة براحا والكون مددا يتسع له ولكل الناس، وهادئا ترسم على حوائطه شجرا وليلا مقمرا، ومن شرفته تسامر النجوم وتصطفيها حتى إن غاب إحداها عرفت.
التشبث صناعة حياة وبقاء، التشبث بما يمنح الأيام رائحة الزهر ولون البحر وطعم القهوة في أول النهار في جلسة تشرف على فضاء ممتد وصوت عبدالوهاب يحنو على ذاتك وهى تشدو بكلمات عزيز أباظة نغما فذا "وكم تعانق روحانا وقلبانا"، صوتك يا عبدالوهاب أنشودتي الدائمة "في الليل لما خلي"، الأغنيات الموشاة بذكرى ما عرفت وألفت وأحببت هى مذاق البهجة صافية، وشريط من المشاهد التي تصنع حضور الناس مكتملا صافيا من شوائب الزمن والغياب.
نمضي ونعتاد الأشياء، وهكذا تعلم البشر درس الحياة الأول منذ آدم ومضوا يحملون نتوءات التكرار علامة على السنوات، وهكذا ربما يصبح الكبار أكثر سكونًا وربما حكمة قد يسمونها "نضجا"، ويصبح الصغار أكثر شغفًا ولعبًا ويسمونها "طيشًا"، وتكون تلك مسيرة مراودات البشر في مضامير الكون الطويلة، فطوبى لمن تاقت نفسه للشغف واتسعت للحياة وألوانها كبدا وفرحا، تقبلا ومعايشة وأملا.

إعلان

إعلان

إعلان