إعلان

غابت السياسة وحضرت الفتة!

غابت السياسة وحضرت الفتة!

محمد حسن الألفي
09:01 م الثلاثاء 21 أغسطس 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا أظن أن من الكياسة أن يدور حديث في السياسة بينما أطباق الفتة بالثوم باللحم قد شغلت الفراغ العريض في أمخاخ وأمعاء المصريين كافة! يصبح من العبث حقا التخلص من سحر تلك الخلطة الغامضة التي تتوارثها أجيال وراء أجيال، حين تتعادل قوى اللحم مع الحساء مع فركة ودقة الثوم مع الخل ومغرفة الصلصة، مع عيون مبحلقة، وبطون تهيأت للوليمة بتجويع متعمد قبلها بيوم!

إنه العيد الكبير، عيد التضحية، عيد اللحم، عيد الأكل والهبر. عيد ذبح العجول والخرفان. لكن لم تعد ميزانية الأسرة تسمح بالمباهاة وبإطلاق العجل يرعي في أنحاء الشارع أو في منور العمارة أو في جراجها.

المشاركة في التضحية أقصد المباهاة صارت هي العرف السائد حاليا بحكم الندرة المالية المستحكمة. كان عندنا قبلها بشهرين تقريبا عيد هو العيد الصغير. كله أكل. الاكل يستمر ثلاثين يوما، لحوما ولحوما ولحوما ولحوما ومسلسلات وصلوات تراويح! شهر وعيد صغير يعني ثلاثة وثلاثين يوما أو اثنين وثلاثين حسب الهلال يكرس فيه المصريون وقتهم وأموالهم للأكل والسهر والنوم... أما العمل، فليذهب إلى الجحيم، فإن مصر أم الدنيا !

ونأكل في العيد الكبير كما لو كنا لم نأكل قط.. ورغم الغلاء والبلاء، فإن الموائد ممدودة، وتمتلئ البطون، وتتمدد الكروش، وتختنق الصدور وتغوص المصارين في بحار الحموضة.. وتمتلئ أقسام الطوارئ بمن قتلهم الأكل تقريبا .

حضرت اللحوم لكن غامت الوجوه، وغابت السعادة، وملأ الهم عيون الناس، وانطفأت فرحة قدوم الأعياد.. وترى الناس في كدر، وتحفز، واختفت روح التسامح، وحلت روح شريرة متشحة بمسبحة وزبيبة في القورة !

ليس يكفي أن تأكل أو أن تلبس، الأهم أن تطمئن. هذا الشعور بالطمأنينة يفتقده المصريون. نحن في أمن، ونحن في أمان، لكننا لسنا في الطمأنينة التى هي حصيلة العوامل السابقة كلها ، فحين تأمن، جسديا ونفسيا وماليا ستكون مطمئن البال، ساكن النفس، قرير العين. الحاجة الاقتصادية يسميها الرئيس العوز، وهو لفظ قاسٍ، ربما كان سببه وقتها الشدة القاصمة التي كنا فيها، لدرجة تلقي الإحسان العربي!

أقول إن الشدة الاقتصادية لا تزال خانقة، ومستعرة ، ومع ذلك فالطعام البقري والبروتيني موجود، ربما بسبب من قوة وفعالية شبكة حماية اجتماعية شعبية تقليدية، بعيدا حتى عن الشبكة الحكومية. ففي كل عائلة مصرية ستجد عمود الخيمة الذي يحمل همها جذوعا وفروعا.. وهذا النوع من التكافل الداخلي هو ما يصون حياء المجتمع برمته، ويجعل إفطار أول أيام عيد الأضحى لحما من عجل أو خروف.

لكن هل معنا مال يكفي التزامات بقية العام.. ناهيك من بقية الشهر؟ المال منحصر، ومختبئ، ولائذ، ولابد، في أيدٍ حفنة من تجار الإعلام في مصر، كانوا بالشباشب، والشيرزات، وفهموا اللعبة مبكرا، فباعوا استقرار الوطن.

يا ليلة العيد آنستينا.. ياه!

كان لها مذاق خاص. فرحة في القلب. وثبة في الروح. طفرة دمع مشجون. نوبة كرم في المشاعر لمن حولك. اليد طايلة والنفس راضية. الآن لا هي طايلة ولا هي راضية .

نحن ما عدنا نحن .

كما يتغير حال المناخ في الدنيا، ويصير حارا حارقا في أوروبا، نتحول نحن في الأعماق إلى جفاف وحرائق وجحود.

أين الحج إلى النفس قبل الحج إلى الله؟

حج شكلي. وصلاة شكلية. وبطاقات مباركات طوال العام. لا يمر يوم الإ وتقرأ، وتسمع، وتشاهد: كل سنة وانت طيب.. وتحول مدلولها من الأمنية بالخير لك إلى أن تسول منك او طلب رشوة. المسلمون في أحط مكان من أنفسهم ومن العالم .

لكن حقيقة الفتة مع الثوم مع الخل مع هبرة كتف خروف مع خبز محمص محمر مطقطق في السمن البلدي، هي تذكرة القفز السريع إلى أعمق منطقة تخدير وشخير .

كل فتة ونحن في السبات الغميق.

إعلان

إعلان

إعلان