إعلان

أمل الجمل تكتب عن كارلوفي فاري السينمائى: "كارلسباد" قطعة من الجنة

أمل الجمل تكتب عن كارلوفي فاري السينمائى: "كارلسباد" قطعة من الجنة

د. أمل الجمل
10:10 م الأحد 01 يوليه 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

من النافذة - وقبل الهبوط مباشرة - لم أتمكن من رؤية المنظر الذي أستقبل به أي مدينة أزورها وكأنها تمنحني بعضاً من أبوابها وتبوح بكثير من أسرارها. إلى جوار النافذة جلس زوجين سائحين في السبعين من العمر حجبا عني الرؤية، رغم محاولاتي وتحريك رأسي في اتجاهات متباينة لاختلاس النظر. هبطت من الطائرة فوجدت المطار هادئا، بخلاف توقعاتي عن مدينة أعلم أنها سياحية من الدرجة الأولي، ربما لأن الوقت كان لا يزال مبكرا جدا.

بأرض المطار في براغ، وأمام "الكاونتر" المخصص لفريق مهرجان كارلوفي فاري - الذي يُعد من أقدم المهرجانات في العالم، وافتتح يوم الجمعة الماضية ٢٩ يونيه دورته الثالثة والخمسين ويمتد إلي ٧ يوليو الحالي -، استقبلني بترحاب شباب وشابات يبدو عليهم الإشراق، فأزالت ابتسامتهم المبهجة توتري لأني بوصولي متأخرا - بعد بداية المهرجان - قد أضعت يوماً ونصف اليوم من ملاحقة الفعالية الثقافية والسينمائية الكبيرة، وبالطبع سيؤثر ذلك علي حصيلة مشاهداتي، حيويتهم جعلتني أنفض عني التعب والإرهاق وأنسى قلة النوم، فالشباب هنا، وفي هذا المهرجان تحديداً يتم الرهان على قدراتهم ودورهم في إنجاح دوراته التي أتمت عامها الثالث والخمسين، ليس فقط داخل البرمجة أو في التنظيم ولكن أيضاً القدرة على استقطاب الشباب لمشاهدة الأفلام.

وهنا أتذكر "قرية الخيام" التي فكرت ذات يوم - عندما كان حلمي زيارته يراودني من عدة سنوات - أن أقضي بها ساعات النوم ليلاً أثناء فترة المهرجان لأن أسعار الفنادق هناك كانت مرتفعة الأسعار، وأثناء بحثي عن أرخص الأماكن اكتشفت أن المهرجان يقدم خدمة لوجستية تتمثل في تلك القرية التي تضم عددا مهولا من الشباب من الدول الأوروبية الذين سحرتهم نداهة السينما، خصوصاً في مهرجان يُعتبر هو الأهم في أوروبا الوسطي، إذ يُقدم نحو 200 فيلماً من جنسيات متنوعة حول العالم تتواجد في التظاهرات المختلفة، وقيل أنه يبيع حوالي 120 ألف بطاقة سنوياً، وذلك رغم أن برمجته تعتمد على الأفلام التي تتبقى من المهرجانات الثلاثة الكبرى (كان، وبرلين وفينسيا)، لكنه في ذات الوقت يحافظ على مستوى اختياراته، كما أنه يختار أهم التحف السينمائية التي عرضت بتلك المهرجانات الثلاثة العريقة ليقوم بعرضها ضمن تظاهرة خاصة فتكون أمام جمهوره وجبة سينمائية متنوعة ورائعة، خصوصا مع تولي كاريل أوخ مديره الفني الحالي منذ سبع سنوات واعتماده على فريق برمجه من الشباب، يعمل بجهد كبير، وفق شهادة كثير من المتابعين للمهرجان علي مدار سنوات عديدة، وإن كان لا يمكن إنكار أن المهرجان أيضاً شهد تطوراً وتبدلات في مستواه بعد انفصال جمهورية التشيك عن المعسكر الاشتراكي، وذلك بعد أن كان ساحة للدعاية والصراعات السياسية، كما شهد في سنواته الأخيرة انفتاحاً علي السينما العربية واهتماماً بها.

من هؤلاء الشباب عرفت أن المسافة بين مطار براغ الذي هبطت فيه للتو وبين مقر المهرجان في فندق تيرمال تبلغ ١٣٠ كيلومترا وتستغرق وقتاً يتراوح ما بين ساعة أو ساعة ونصف، ثم أضاف الشاب "فيه سائقين يقطعونها في ٤٠ دقيقة لكني لا أنصحك بمثل هؤلاء السائقين." ابتسمت قبل أن أجيبه: "عمومًا، لست في عجلة من أمري، أريد أن أستمتع بالطريق."

في السيارة التي وفروها لضيوف المهرجان جمعتني الصدفة بالمخرج المغربي خليل بينكران الذي - عرفت منه أثناء حوارنا علي الطريق الممتد- أنه أخيراً وبعد فترة من الغياب الطويل يُعد لفيلمه السينمائي الجديد "الخيط الأبيض" عن الموسيقى المغربية، أما حضوره هنا فبصفته مديرا لإدارة منح الأفلام بمؤسسة الدوحة والتي تشارك في دعم خمسة أفلام معروضة في مهرجان كارلوفي فاري الثالث والخمسين منها فيلم "ولدي" أو كما في العنوان الإنجليزي "Dear Son" للمخرج التونسي محمد بن عطية والذي سبق أن قدم فيلم "نحبك هادي" ونال جائزة أفضل فيلم روائي أول، أما فيلمه الجديد فتم عرضه في قسم "آفاق" بالمهرجان التشيكي ويدور حول تيمة مكررة لم تقدم أي جديد عن استقطاب الشباب من قبل داعش، وأفضل ما في الفيلم هو أداء البطل محمد ظريف في دور الأب المهزوم والمقاوم في آن واحد، ثم فيلم "احلم بعيدا" - Dream Away - من الإخراج والإنتاج المصري الألماني المشترك فقد أخرجه كل من مروان عمارة وجوهانا دوميك. وكان هذا الفيلم أول مشاهداتي وسنخصص له مقالاً قادماً.

كارلسباد

علي الطريق المطرز بالبهجة عبرت عن إعجابي بالألوان فهي زيارتي الأولي لبراغ وكارلوفي فاري، فأردف بنكيران بدهشة وفرح: "ما كل هذه الخضرة الكثيفة!، أنا قادم من الصحراء، ثم أجد نفسي فجأة في هذا البحر الأخضر."

كان ما يبهرني ليس كثافة وامتداد اللون الأخضر، فقد شاهدت أقوى منه في مدن ألمانية خصوصا بون وميونخ، وكذلك المدينة السويسرية الرائعة زيورخ، إضافة لمناطق مختلفة من أوروبا، وحتى أمريكا، رغم أن الأخيرة لم تكن في قوة إبهار أوروبا لي، لأن كثافة الأخضر في بعض المناطق كانت تحاصرني وتكتم علي أنفاسي، كنت أشعر بأنها تغلق أمامي الأفق، أما في كثير من بلدان أوروبا التي زرتها فكنت أستمع بغاباتها الكثيفة التي لا تحرمني من الأفق المفتوح، وتجعلني أشعر بأني كالطائر يُحلق عالياً.

علي الطريق الملتوي بين براغ وكارلسباد، وهي طريقة نطق كارلوفي فاري بالألمانية أي حمامات كارل نسبة إلي الملك والقيصر الروماني كارل الرابع الذي أسس المدينة - عام ١٣٧٠ - التي تشتهر بالعيون المائية العلاجية. هنا، على هذا الطريق كان يسحرني ألوان الطبيعة بحقول القمح الصفراء التي اقترب موسم حصادها، بتقاطعها مع ألوان الأشجار والحشائش والعشب الأخضر والزهور بألوانها المتنوعة، كان يُثير دهشتي كيف نبت ذلك الحقل الممزوج من الورود البيضاء والحمراء، وردة بيضاء إلي جوار أخرى حمراء، كأنهما ولدتا سويا، كأنهما توأم غير متشابه، وكل ذلك يتماس مع خط الأفق لسماء ناصعة تضيئها شمس مشرقة تمنح ألوان البيوت إضاءات جديدة، فتبدو درجات الأحمر البرتقالي والأصفر في تشكيل سينمائي بديع لتلك الجدران حتى القديم المتهالك منها له جماله الخاص. لوهلة شعرت وكأنني سقطت في قطعة من الجنة علي الأرض.

المشاركة العربية

منذ سنوات كنت أحلم بحضور فعاليات مهرجان كارلوفي فاري، وُلدت الفكرة مع كلمات كان يتم ترديدها عند التأكيد علي أهمية فيلم ما سيعرض داخل المهرجانات المصرية عموماً، إذ عندما يقال "هذا الفيلم عُرض في كارلوفي فاري".؛ فهذه شهادة لحضوره، وضمان بأنك سوف تستمتع به. قبل يوم من بدء رحلتي المؤجلة منذ سنوات ضربت بأصابعي علي "جوجل" لأقرأ عن المدينة التي اختلفت المصادر حول تاريخ تأسيسها، لكنهم أجمعوا علي أن المدينة تُعتبر منتجعا صحيا، وأن الينابيع الساخنة الرائعة جزء من جمالها، إذ تفخر وتتباهي المدينة بتواجد نحو 13 من الينابيع الرئيسية والتي تتفرع ليصل عددها إلي حوالي 300 ينبوع أصغر حجمًا. ثم هناك العمارة التاريخية - كأحد عوامل الجذب الكبيرة الأخرى - والتي تتنوع وتجمع بين الأساليب الكلاسيكية، والفن الحديث الذي يرجع إلى أواخر القرن الـ 19 وأوائل القرن الـ20 . كما أنها نقطة ثقافية ساخنة مع مركز للفنون الأدائية والمعارض الفنية، وعدداً من المتاحف، ووفق بعض المصادر فإن المدينة استقبلت عددا من أهم المبدعين في التاريخ الإنساني مثل: بيتهوفن، وشوبان، وشيلر، وكارل ماركس، وجوته.

تحقق الحلم اليوم، بفضل السينما التي سحرتني، ووهبتني أجمل الأشياء في حياتي، والتي من أجلها اتخذت القرار بالسفر إلى كارلوفي فاري الذي يقدم هذا العام في برنامجه الرسمي خمسة عشر فيلماً، من بينها اثني عشر فيلما داخل المسابقة الرسمية تتنافس على "الكريستال جلوب" وجوائز المهرجان الأخرى، وهناك أيضاً مسابقة "أفلام شرق الغرب" والتي تشارك في عضويتها المنتجة اللبنانية مريام ساين، إضافة إلى المخرج المصري محمد صيام الذي يشارك في عضوية لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الوثائقية والتي تضم ١٢ فيلماً من بينها فيلمين عربيين؛ الأول أعتبره عملا سينمائيا رائعا محملا بالأسئلة الوجودية المقلقة عن الحياة والموت، والتي حتماً سنمر بها جميعاً يوماً ما في حياتنا، وستشغل خواطرنا شئنا أم أبينا، والتي يتناولها الفيلم اللبناني الذي يحمل عنوان "الأرجوحة" للمخرج سيريل عريس، وسنوفيه حقه في النقد والتحليل لاحقاً، أما الفيلم الثاني فمصري ألماني مشترك بعنوان "احلم بعيداً"، سبق الإشارة إليه.

يبدو للوهلة الأولي - خصوصا وأننا لا نزال في اليوم الثاني بعد الافتتاح - أن المشاركة العربية قد تكون مُرضية من حيث الكم - فهناك عدد غير قليل جاء من مصر وقطر وتونس وفلسطين ولبنان والإمارات العربية - أما الحكم علي المستوي الفني والفكري سيتضح بعد مشاهدتها جميعاً ومقارنة مستواها بغيرها من الأفلام المشاركة، فحتى الآن شاهدت فقط الفيلم الإسرائيلي الروائي "تكفير" إلي جانب ثلاثة أفلام عربية هي: المصري الألماني، واللبناني، والتونسي، وأرى أن أهمها وأقواها سينمائيا وفكرياً الإسرائيلي وكذلك الشريط اللبناني الوثائقي، وإن كان "تكفير" يتميز بأنه موسيقي غنائي وبه بعض مناطق البهجة المتأججة بالحياة - رغم مأساوية تيمته، واشتغاله على فكرة الهدف من الحياة والوجود - لذلك ربما يكون جاذباً للجمهور أكثر من الفيلم اللبناني القاتم رغم صدقيته وإنسانيته.

إعلان

إعلان

إعلان