- إختر إسم الكاتب
- محمد مكاوي
- علاء الغطريفي
- كريم رمزي
- بسمة السباعي
- مجدي الجلاد
- د. جمال عبد الجواد
- محمد جاد
- د. هشام عطية عبد المقصود
- ميلاد زكريا
- فريد إدوار
- د. أحمد عبدالعال عمر
- د. إيمان رجب
- أمينة خيري
- أحمد الشمسي
- د. عبد الهادى محمد عبد الهادى
- أشرف جهاد
- ياسر الزيات
- كريم سعيد
- محمد مهدي حسين
- محمد جمعة
- أحمد جبريل
- د. عبد المنعم المشاط
- عبد الرحمن شلبي
- د. سعيد اللاوندى
- بهاء حجازي
- د. ياسر ثابت
- د. عمار علي حسن
- عصام بدوى
- عادل نعمان
- علاء المطيري
- د. عبد الخالق فاروق
- خيري حسن
- مجدي الحفناوي
- د. براءة جاسم
- عصام فاروق
- د. غادة موسى
- أحمد عبدالرؤوف
- د. أمل الجمل
- خليل العوامي
- د. إبراهيم مجدي
- عبدالله حسن
- محمد الصباغ
- د. معتز بالله عبد الفتاح
- محمد كمال
- حسام زايد
- محمود الورداني
- أحمد الجزار
- د. سامر يوسف
- محمد سمير فريد
- لميس الحديدي
- حسين عبد القادر
- د.محمد فتحي
- ريهام فؤاد الحداد
- د. طارق عباس
- جمال طه
- د.سامي عبد العزيز
- إيناس عثمان
- د. صباح الحكيم
- أحمد الشيخ *
- محمد حنفي نصر
- أحمد الشيخ
- ضياء مصطفى
- عبدالله حسن
- د. محمد عبد الباسط عيد
- بشير حسن
- سارة فوزي
- عمرو المنير
- سامية عايش
- د. إياد حرفوش
- أسامة عبد الفتاح
- نبيل عمر
- مديحة عاشور
- محمد مصطفى
- د. هاني نسيره
- تامر المهدي
- إبراهيم علي
- أسامة عبد الفتاح
- محمود رضوان
جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
الطريق إلى مستشفى العجوزة للعلاج الطبيعي والتأهيل يسلكه المرء بسهولة، عن طريق شارع عبدالرحيم باشا صبري، من شارع التحرير. خرجت من محطة مترو الدقي، واتجهت إلى الشارع في ذلك المساء الهادئ من عام 2005 تحت سماء القاهرة، الممتلئة بشبورة تنذز بسقوط أمطار خفيفة. الشارع هادئ جدًا؛ إلا من عدة أشخاص يعملون كحراس للبنايات الجميلة، التي تذكرك بزمن القصور والباشوات في عصر مصر الخديوية.
في منتصف الشارع، رأيت بوابا أكل الدهر على ظهره، وشرب، يجلس القرفصاء أمام حجرته الصغيرة الملحقة؛ بعمارة عتيقة، وأمامه جهاز تليفزيون صوته مرتفع بعض الشيء، نظراً لحالة الهدوء التي تطبق على المكان. يرتدى جلباباً قصيراً، وعلى رأسه عمامة كبيرة، ويدثر قدميه ببطانية رديئة المظهر من شدة البرد. اقتربت منه قليلاً أسأله عن المستشفى الذي أنا في طريقي إليه. على الشاشة تتر فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس" إنتاج عام 1979 إخراج الراحل حسين كمال. التتر تغنى فيه مجموعة من ألحان بليغ حمدي وكلمات سيد مرسي، ليا مين؟ ليا مين غيرك يا بلدي.. ليا مين؟ ياللي علمتيني إيه معنى الحنين؟ وقفت أنظر للبواب وهو يهز رأسه مع الألحان بتركيز شديد ولا ينتبه لوجودي بجواره.. ومع وصول التتر لنهايته، بدأت أحداث الفيلم. التفت لي قائلاً: خير يا أفندي؟ أي خدمة؟ قلت: كيف أصل إلى هذا العنوان؟ رد بعجلة في كلامه قائلاً: أكمل هذا الشارع حتى نهايته. أنحرف جهة اليمين قليلاً. ثم أنظر ناحية الشمال. بعدها ستجد المستشفى أمامك".
ثم أدار وجهه ليتابع أحداث الفيلم، وهو مازال يردد بأسى: "ليّا مين غيرك يا بلدي.. ليا مين؟ أنت اللي أرضك طيبة/ والغربة فيكي قريبة/ وحنينة/ على قلبنا/ طول السنين.. ليا مين.. غيرك يا بلدي؟ ليا مين؟ كان هو يغنى وكنت أنا استمع، وعيني على شاشة التليفزيون. فجأة التفت لي فوجدني متصلباً وواجماً. نظر لي بعتاب قائلاً: خير يا أستاذ.. هل تنتظر أي شيء آخر؟ ثم أكمل متعجباً: الفيلم بدأ! قلت مازحاً بغرض استفزازه: ولكن هذا الفيلم عرض من قبل.. أليس كذلك؟ رد بغضب: نعم.. وشاهدته أكثر من مرة.. وسأشاهده كلما وجدته يعرض أمامي. قالها وهو يلاحظ حالة من الدهشة على ملامحي، لذلك قال: هذا الفيلم يلخص حال مصر، عندما تتعرض لنكسة في الحريات، ويصبح فيها القهر ضرورة من أولويات السلطة، ويتحكم في البلد صوت واحد، ورأي واحد، وفكر واحد، تحت زعم- أو وهم ـ أن هذا الطريق يصنع أمة، ويحمى الوطن من الانهيار والسقوط. ثم غابت من عن وجهه حالة الغضب وحلت مكانه ابتسامة ساخرة وهو يقول: أنا أعمل- في الواقع- بوابا من 50 عاماً، لكن في نفس الوقت مثقف يا أستاذ؛ تعلمت الثقافة على يد كاتب كبير، كان يسكن في العقار المجاور هذا ـ وأشار بيده إليه ـ في الستينيات. كنت أشترى له الصحف كل يوم، وهو مختبئ خوفاً من اعتقاله، في شقة صديق له كان يعيش في فرنسا بعد هروبه من مصر، وتركها له. وظل يعيش فيها لعدة سنوات، وذات يوم ذهبت إلى ميدان الدقي أشترى له الصحف المتفق عليها بيننا، كطقس يومي كنت أقوم به. عندما عدت وصعدت إليه لم أجده. مرت سنوات عرفت بعدها أنه تم القبض عليه، واعتقل في سجن بعيد بالصحراء (يقصد سجن الواحات) ومنذ ذلك اليوم لم أعرف عنه شيئاً. قلت: هل كان يسارياً؟ نظر لي بدهشة وعيناه على أوراق الشجر المتساقط أمامنا وقال: ما أعرفه إنه كان مصرياً، يحب الخير للناس ويتكلم عن العدل والمساواة بين الناس. ويكره الأغنياء ويحب الفقراء. تعلمت منه أشياء كثيرة وجميلة، حيث كان التواضع سمة من سمات شخصيته. قلت: هل تذكر اسمه؟ رد: أظن اسمه لن يفيدك كثيراً. ثم أدار ظهره يتابع أحداث الفيلم باهتمام واضح. بعدها أدركت.. لماذا هو مهتم بمتابعة أحداث فيلم: "إحنا بتوع الأتوبيس"! فتركته وواصلت المشي في الطريق الذى حدده لي، تحت زخات مطر، تساقط بشدة، ولا أحد يستقبله في الشارع سواي !
وصلت إلى المستشفى حيث كنت على موعد مع الفنان الكوميدي يونس شلبي (1941 ـ 2007) لإجراء حديث صحفي لصحيفة "الوفد" التي أعمل بها، حيث كان يعالج من أمراض عظام هاجمت قدمه اليسرى التي كانت تحتاج لزراعة شرايين جديدة ـ أن لم تخنّي الذاكرة ـ بعد رحلة مرضه الأولى لعلاج القلب في مستشفى بالسعودية، وتغيير ثلاثة شرايين فيه وتوسعة القفص الصدري، في عملية أولى ناجحة. دلفت إلى حجرته، لا أحد بجواره، الإضاءة خافتة. وهو يرقد مرتدياً (طاقية) صوف يظهر من تحتها عيناه الزائغتان، المنتبهتان، الناظرتان للسقف بقلق. اعتدل قليلاً بصعوبة وهو يستقبلني. ثم قال: أهلاً وسهلاً. اتفضل. جلست على مقربة منه، ودار بيننا حديث أردته قصير بعض الشيء، حتى لا أثقل عليه. وقتها شعرت من كلامه إنه حزين، بعدما غابت عنه النجومية، واختفت أيامًا ولياليَ الشهرة الزائفة ـ بنص كلامه ـ ولم يبق له إلا زجاجات الأدوية والمحاليل وتعليمات الأطباء، ولم يعد بجواره إلا اللون الأبيض. وغابت ـ تحت وطأة المرض ـ كل الألوان. وأنفق كل أمواله على رحلة علاجه، بعدما باع كل ما يملكه في مدينته التي ولد فيها المنصورة بدلتا مصر، وتدخلت الدولة لعلاجه على نفقتها. عرفت منه أن الفنان الراحل سعيد صالح والدكتور أشرف زكى هما اللذان يسألان عنه في محنة مرضه القاسية التي بدأت منذ عامين. حاولت أن أخرجه من حالته السيئة، وبدأت أتذكر معه (الواد منصور) في مسرحية مدرسة المشاغبين. و(الواد عاطف) في مسرحية العيال كبرت. وبعض أدواره المتميزة التي قدمها ورسم من خلالها البسمة على الوجوه العابسة في وطننا العربي الكبير، بعدما قدم ما يقرب من 77 فيلماً سينمائياً، بخلاف عمله الشهير للأطفال "بوجي وطمطم". تركني أتذكر وهو يبتسم. ثم قلت له: لماذا رفضت حضور الفنان سعيد صالح حفل زفافك؟ مد يده وأزاح الطاقية من على رأسه للخلف ثم قال: لأنه كان سيقلب الفرح إلى مسخرة! قالها وهو يضحك بشدة. ثم قال: ورغم رفضي حضوره هو وباقي الزملاء الفنانين وتحذيري لهم؛ فقد فوجئت به جاء ومعه مجموعة كبيرة من الأصدقاء. يومها الحقيقة أسعدوني بحضورهم كثيراً. كان الوقت بنا يمر بسرعة مفرطة. هوـ كما بدا لي من ملامحه ـ يشعر بسعادة واضحة، خاصة وهو يتذكر زمنه الجميل. ومشوار حياته الطويل. وهذا شجعني لأسأله عن دوره في فيلم "إحنا بتوع الأتوبيس". ولماذا اختار المخرج العبقري الراحل حسين كمال مجموعة من نجوم الكوميديا ليلعبوا بطولة هذا العمل الذي تدور أحداثه عن قصة حقيقية سجلها الكاتب الصحفي الراحل "جلال الحمامصي" في كتاب عنوانه "حوار خلف الأسوار"، حيث تدور الأحداث حول التعذيب وراء الأسوار، خلال الحقبة الناصرية. ومدى الاستهانة بآدمية البشر في ظل الحكم البوليسي ودولة أجهزة الأمن التي انتهت بهزيمة عام 1967. وانحراف أجهزة الدولة تحت زعم حماية البلد، فلا هم استطاعوا حماية النظام ولا هم استطاعوا حماية الوطن.
استمع لي جيداً وكأنه يعيد ذكرياته مع الفيلم. ثم قال: هذه عبقرية حسين كمال، فهو مخرج مختلف ويبحث دائماً عن المختلف. وأظنه كان يدرك أن الكوميديا بقدر ما تحمل بداخلها الكثير من البهجة والضحك والسعادة هي أيضا تحمل بداخلها السخرية والمرارة والحزن. يوم أن عرض عليّ الدور وافقت على الفور. بعدما رأيت في دور الطالب "علي" الذي اعتقلوه وهو يغنى للوطن داخل مسرح الجامعة. ليا مين غيرك يا بلدي.. ليا مين؟ مستقبل سيئ للوطن إذا غابت فيه الحرية، وللشباب إذا سجنت أحلامه وراء الزنازين. ثم سكت بعض الوقت ولم يكمل كلامه. وأنا مثله لا أتكلم، وأنظر إليه أنتظره يتكلم. لكنه بهدوء أغمض عينيه قليلاً ومدد جسده على المخدة التي خلف ظهره ورفع قدمه المتعبة إلى أعلى، وبداخله صرخة يحاول كتمانها أمامي. قلت له مبتسماً: أعتقد أن "بتوع الأتوبيس" مازالوا بيننا يصرخون قائلين: (إحنا بتوع الأتوبيس.. يا بيه)! رد وهو يشد الطاقية من فوق رأسه ليخفى وراءها عينيه قبل أن يودعني، لينام.. قائلاً: دعهم يصرخوا، ويتكلموا، ويبكوا وهم ينادون على مصر" ليا مين غيرك يا بلدي ليا مين؟/ إنت اللي أرضك طيبة/ والغربة فيك قريبة/ يا حنينة/ على قلبنا/ طول السنين!
ثم ودعني وأغمض عينيه ووضع يده عليهما لينام بهدوء. بعدها خرجت أترجل في شوارع العجوزة في طريقي لمحطة مترو الدقي وسط بقايا أمطار تتساقط من على أوراق الشجر العابث، تحت إضاءة خافتة حولت الشوارع إلى دروب شبه مظلمة.
إعلان