تعويم البطاطس...!

يتمتع المصريون بنعمة التذوق لوجبتين مهمتين، لأنهما في الحقيقة ممتعتان: السيد فول مدمس، والسيدة بطاطس. ولا يمكن تصور مائدة إفطار مصرية علي مستوى طبقي بدون طبق الفول المدمس، تمت معالجته بألوان شتى من التوابل، لتفوح رائحته مع الزيت الحار أو السمن البلدي.. وأيضا لا يمكن تصور غياب السيدة بطاطس التي خلع المصريون اسمها على كل بنت حلوة مشقرة مدملجة، فجعلوها بطاطس، ودلعوا البطاطس ذاتها فصارت طاطس!

فعل الناس ذلك وقت أن كانت البنوتة طاطس طوع الطبلية والسفرة وعربة الفول والباذنجان والبطاطس المحمرة والمهروسة، لكنها بعد التعويم في الأيام الاخيرة أمعنت في الدلال، وأسرفت في الميوعة واختارت أن تترفع وأن تتعالى وتبجحت وأعلنت سعرها: ١٤ جنيها الكيلو، واللي مش عاجبه يتفرج ويمشي!

قلة أصل حقيقي، انتقلت عدواها من بشر في مصر منذ سنوات قليلة ماضية، سقط فيها الضمير سقوط فردة كاوتش أفرغت من هوائها، إلى البطاطس.. فقلت بأصلها فعلا، وتمردت، واختبأت في الثلاجات تحت حماية ووصاية وتسقيع، وتصقيع، حفنة من غلاظ التجار الاحتكاريين في مصر!

والحقيقة أن الناس لا تصدق أبدا، ولن تصدق أن سطوة التجار أقوى من سلطة الحكومة، لأن كفاح الناس خلال السنوات الخمس الماضية كان مضاعفا لتثبيت أركان الحكومة التي هي مسؤولة عن الدولة تنفيذيا. بالتالي، فهم توقعوا من وزير التموين دكتور علي المصيلحي أن يمثل سياسة حكومة دكتور مصطفى مدبولي تمثيلا فعليا، بأن يضع تصريح حاتم نجيب، رئيس غرفة الخضروات نصب عينيه، وأن يفزع للمعلومة الكاشفة التي قال فيها إن كبار التجار يتبعون سياسة تعطيش السوق، وأنهم أودعوا البطاطس ثلاجاتهم، وأنهم منعوا إخراجها وطرحها للبيع. بالطبع هذه فترة شح في المعروض، والإنتاج الجديد من البطاطس لم يطرح بعد، والمعتاد أن يرتفع سعر الخضروات والفواكه والمحاصيل الدرنية كالبطاطس، لكن بقدر معقول، أما أن تنافس البطاطس سعر الدولار، وأن يطرح لها في نكات المصريين السوداء سعر بيع وسعر شراء، كأنما هي متداولة في مكاتب للصرافة، فهذا بصراحة مما لم يجر به خيال أحد.

مع ذلك، ينبغي الإقرار بأن خيال السادة كبار التجار البطاطسيين كان خيالا فاجرا، وبلا حدود، لأنهم ببساطة وضعوا أصابعهم في آذانهم كيلا يسمعوا صرخات الدهشة والألم والسخط. وأحيانا رفعوها، تطربهم الصرخات المدوية الموجوعة.

هؤلاء الاحتكاريون يثيرون حفيظة الشعب، وهم يحرجون الحكومة، لكن الحكومة ستعاقبهم وستلم عصبتهم، وستحاكمهم بالتأكيد وفق قانون منع الاحتكار.

البطاطس وجبة الشعب، ولها تاريخ في تصبير البطون، وأوروبا لما وقعت منها دول تحت الاحتلال النازي، كانت ثمرة البطاطس هي الغذاء المشبع.

لن يقرأ الدكتور وزير التموين تصريحات حاتم نجيب، نائب رئيس الغرفة، كما يقرأها العامة، فهل سيأخذ القرار، ويفضح لصوص الشعب علنا، ليكونوا عبرة لكل من يسرق أقوات الناس، ويحبط جهد الحكومة في توفير الطعام باحترام..!