إعلان

الفساد... ممارسات تهدد الأمن القومي

الفساد... ممارسات تهدد الأمن القومي

د. غادة موسى

أستاذ مساعد - كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة 

09:15 م الثلاثاء 16 يناير 2018

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

في مطلع عام ٢٠٠٨ عندما بدأ الحديث عن مكافحة الفساد رسميا- على استحياء آنذاك- كان الاقتراب الأكثر رواجا في التعامل مع ظاهرة الفساد هو الاقتراب الإداري الذي طغى- رسميا وإعلاميا- على ما دونه من اقترابات.

وأتذكر آنذاك أن أحد أعضاء لجنة الشفافية والنزاهة، وهي اللجنة الحكومية الأولى التي شكلت لمناقشة وتحليل الفساد الإداري، عام ٢٠٠٧ - قد أشار ألى أهمية تبني اقتراب أكثر شمولا من الفساد الإداري، إذ لا بد من تناول الأشكال الأخرى من الفساد كالفساد الاقتصادي والسياسي والثقافي، حيث لا ينفصل الفساد الإداري عن السياقات السابقة تفاعلا وتأثرا. وهو توجه لا يمكن أن ينكره أي إصلاحي، ممن عاصروا المرحلة التاريخية ٢٠٠٧- ٢٠١١ أو بعد ٢٠١١.

وهذا الاقتراب الشامل يضع كافة الأطراف المعنية والإصلاحية في موقع المسئولية من تدبره ودراسته.

كما يضعها أيضا في مسئولية موقع التوجيه والفعل لمكافحة الفساد.

وكما جابهنا جميعا تحديات وصعوبات في تعريف الفساد، فنفس الأمر نواجهه في وضع تعريف للأمن القومي. ولكن إذا كان الفساد يمثل كل شيء ضار أو خارج عن طبيعته، فالأمن القومي هو كل العوامل والعناصر التي تهدد أمن الشعوب ووجودها وتطورها وتقدمها. ومثلما مظاهر الفساد متعددة ومتنوعة ومتطورة مع تطور حركة المجتمع، فتهديدات الأمن القومي متنوعة وتتباين عبر العصور، وتتطور بفعل تغير وتطور احتياجات المجتمع.

وعليه، فإن كافة مظاهر الفساد تعتبر تهديدا للأمن القومي. فاستغلال النفوذ والسلطة لتحقيق منافع شخصية، سواء من العاملين في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص تهدد الأمن القومي، من حيث تضييق الفرص على الآخرين في الدخول لسوق العمل أو التنافس من أجل الحصول على فرصة للاستثمار، وهو ما يُفقد ثقة الأفراد في المناخ العام، كما أن مثل هذه الممارسات تقوض مفهوم الصالح العام وتحوله إلى مصالح شخصية.

وهذه المتتالية من شأنها- في حال تكرارها - ألا تنال فقط من قيمة الثقة، وإنما أن تنال من قيم الولاء والانتماء وفقدان الأمل في التغيير نحو الأفضل. وعندما تتعانق مصالح بعض موظفي الخدمة المدنية مع مصالح بعض من هم في القطاع الخاص- كما كان الوضع قبل ٢٠١١- نصبح إزاء نموذج حاد من الفساد.

وعندما يكون لدى بعض العاملين في الخدمة المدنية هوى لوجود ميل لديهم لتعظيم مصالحهم الخاصة، نكون أمام تعارض مصالح يهدد توجيه موارد الدولة لمنفعة العامة على حساب مجموعة قليلة، الأمر الذي يعني عدم رشادة توزيع الموارد على جميع المواطنين، أي إخفاق مؤسسات الدولة في تحقيق المساواة المجتمعية وشق صفه.

إذن، يكون الفساد مهددا للأمن القومي عندما يضعف ويقوض قيم العدالة والمساواة والثقة والشرعية. لذلك وجب النظر إلى سياسات مكافحة الفساد من منظور قيمي، ومن منظور ترسيخ الأمن القومي بمفهومه الواسع.

ظاهرة أخرى من مظاهر الفساد تهدد الأمن القومي، وهي التسامح معه، بالاستهانة من قبل الفرد العادي بمظاهر الفساد، والبحث عن مبررات له من قبيل ضعف الأجور، أو أنه الوسيلة الوحيدة لإنجاز الخدمات. وهذا الأمر يجعلنا ندق ناقوس الخطر، لأن معناه الاستسلام لهذه الظاهرة والتعامل معها باعتبارها مشروعة.

وهنا نصبح إزاء معضلة مجتمعية لا تحلها مكافحة الفساد على المستوى الإداري أو الاقتصادي بمفردها، ولا حتى على المستوى السياسي، وإنما تتطلب حلولا أخرى تكسر حالة التعايش مع الفساد، وتعمل على أن يلفظه المجتمع بإرادته الحرة، وباختيار منه.

هنا ستثمر جهود مكافحة الفساد الرسمية في تحقيق أهدافها، لأن من خلفها قوة مجتمعية رافضة، ولا تتسامح مع هذه الممارسات ولا ترى فيها حلاَ سحرياَ لمشكلاتها اليومية.

 

ومما لا شك فيه، وبالنسبة لمن عاصروا مثلي قبل وبعد ٢٠١١، هناك تطور ملحوظ في مكافحة الفساد على المستوى الرسمي، من حيث شجاعة الاقتراب من المشكلة والتعامل مع مسببات الظاهرة، ومن حيث وجود مساحة لتناول الظاهرة بالتحليل ووضع أطر للمساءلة لها، بالإضافة إلى إتاحة البيانات حول تداعياتها. فالأرقام المفزعه التي تطالعنا بها أجهزة مكافحة الفساد بدورها لها دلالات عميقه: أولها ارتفاع معدلات الجريمة في الاعتداء على المال العام من جهة، وتنامي شبكة مصالح رأسية يشترك فيها ثلاثي واضح المعالم من موظف مرورا بقطاع خاص وانتهاء بمواطن أو مستفيد. وقد تتم اتصالات هذه الثلاثية في إطار منظومة معلوماتية إلكترونية. ولو نقلنا تلك الدلالات على علاقة الفساد بتهديد الأمن القومي لوجدنا فيما سبق استهانة بحكم القانون وسيادته، واطمئنانا وأمانا من عدم نيل العقاب المستحق، إذ عادة ما تكون هذه القضايا من التعقد والتشابك بمكان بحيث تستغرق زمناً طويلا للحكم فيها.

وفي هذا السياق أود أن أشير إلى أن وضع الفساد في مواجهة مع مؤسسات العدالة، وأقصد بها القضاء يلقي على كاهله مزيدا من الأعباء، وهذا ليس معناه ألا ينال الفاسد جزاءه، وإنما الانتباه إلى أن استغلال النفوذ والرشوة والصفقات هي ليست فقط في مواجهة مع القضاء، وإنما في مواجهة مع ركائز المجتمع ومع الاقتصاد والدولة بأسرها، فهي وليدة تقديس المال والنفوذ وإحلالهما في قمة القيم من دون التفات الى طريقة الحصول عليهما أو تجميعهما، بالإضافة للتعطش المتزايد للاستهلاك وتدني القيم. ومن ثم لا يمكن الاكتفاء بالاحتكام للقضاء بمفرده لاجتثاث تلك الظاهرة من جذورها.

وإذا ما أردنا توسيع بؤرة النظر لعلاقة الفساد بتهديد الأمن القومي لوجدنا متغيرات وسيطة كثيرة نتعثر فيها، أولها دروب الفساد التي تسهل الاتجار في المخدرات والبشر وتهريبهما. فلا تجب الاستهانة بأن مثل هذه الممارسات الإجرامية تحتاج لميسرين عاملين في أجهزة الدولة المختلفة، إذ تتطلب غطاء مؤسسيا وقانونيا.

وثانيها دروب الاتجار في الأعضاء البشرية، وقد طالعتنا الأجهزة الرقابية بمعلومات حول شبكات من أطباء تعمل في جهات رسمية وغير رسمية متورطة في هذه التجارة المحرمة. وليس هناك أهم من حياة الإنسان وصحته كأحد ركائز الأمن القومي. وأضيف أيضاً الإرهاب. فالإرهاب- في شكله الحالي العابر للحدود- يحتاج لموارد مادية ليحيا ويستمر.

ولنا أن نتساءل من أين يحصل هؤلاء على مواردهم المالية والإمكانات التي يهددون بها أمن الدول ويروعون سكانها؟ الإجابة من خلال شبكات رسمية وغير رسمية تسهل لهم السيطرة على الموارد الطبيعية وبيعها لشراء الأفراد والأسلحة التي ستمكنهم من تحقيق أهدافهم. فهؤلاء بحاجة لأموال ومعلومات يوفرها لهم أفراد على صلة بتلك المعلومات.

فالحلقات جميعها مترابطة ببعضها. ومقاربة واحدة قد لا تمكننا في المستقبل المتوسط والبعيد من الحد من تلك الظاهرة وحماية الأمن القومي. والجدوى من الاحتكام إلى القضاء رهن بتوافر شرط أساسي وهو حل المعضلة المجتمعية. فهدف مكافحة الفساد المهدد للأمن القومي يتطلب لا الخوف من العدالة بل الخوف عليها، إذ يتطلب النهوض بالوعي المجتمعي بحيث يستطيع الربط بين حلقات وفواعل الفساد المختلفين. كما يتطلب نضوجا في فكر المجتمع يقوده إلى قناعة بأن القضاء أحد أركان تحقيق العدالة في تضافره مع سلوك مجتمعي يتفهم تلك العدالة ويحميها.

 

إعلان

إعلان

إعلان