لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

حكايات مدن البحر.. روائح الإسكندرية

حكايات مدن البحر.. روائح الإسكندرية

د. هشام عطية عبد المقصود
09:00 م الجمعة 08 سبتمبر 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

لا تُشبه المدن بعضها، مهما تعددت عناصر التكرار أماكن وتشابهات، ويجدر أن تكون كذلك، ليكونَ لها مقامات الحضور الفريد في ذاكرة الناس وجُغرافية المدن إذ يضمُّها سفرًا في تاريخ الحياة على الأرض.

وحيث يصنع الزمن حكاياته متناثرات على امتداد خريطة الكوْن سنجد المدن حاضرةً، منها مدن تفرَّدتْ، وغرستْ شجرة اسمها وارفة ومنحت اختلافًا لحضورها وتواريخ الحياة التي صنعتها وضمَّتها أرضها وعرفها الناس مقيمون وعابرون هناك على ساحاتها، ومن المدن ما يكون بضاعة مقلدة، نسخًا منقولة بتصميماتها وشوارعها وحتى أسماء مقاهيها، نقلًا نصيًّا مرسومًا من مدن أخرى، تأخذ من المدن الأصل مظهرها ولا تستطيع مهما بلغ التقليد جودته أن تستنشِق فيها روح المكان الأول، بل قد تُضيف زركشات ورتوشًا ملونة هنا أو هناك، فلا يزيدها ذلك إلا بُعدًا عن تلك الأصالة التي تبقى هناك في مكانها هادئة في نظر وإدراك العارفين والمحبين للمدن الفريدة.

ومن المدن من يصنع حضوره بالدعاية وترويج مابها وتمضي حاضرة بفعل ذلك فقط، تناسب تمامًا فاقدي ذاكرة روائح المدن، والساعين نحو الانبهار، لكنَّها تظل مفتقدة لرائحة ما، ذاكرة ما ممتدة، حكايات حملتها الروايات والقصائد وأغنيات المدن، ونتوءات في الشوارع وعلى واجهات البيوت وأعمدة الإنارة.

ومن المدن ما يصنع حضورًا عصريًّا مقصودًا ومختلطًا، زحامًا ومعمارًا مجلوبًا من عشرات المدن، حيث تتوه النكهة الأصلية لكل مدينة وتظهر مدينة جديدة خليط بين المدن، مفتقدة حضور الأصل وحتى استنساخه، ويظل ما يصنع المدن بشرها وحكاياتهم مع طرقاتها وسهراتهم في ساحاتها، وتلك المشاوير التي تؤرخ للبيوت وطعمها.

وأفضل المدن ما منحها التاريخ وجوده في الذاكرة الجمعية للكون وللناس، إذ يمتزج بها عطاء الجغرافية بشرفات على امتداد البحر، تلك هي مدن البحر ذات الروائح والموج وتمايل أوراق الشجر مع النسمات، حيث يتناثر الرذاذ عطرًا في وُجوه العابرين وسكينة لا تبارح، مدن لا تُغلق مدارات وجودها على حوائط أو جبال أو مدن أخرى، ولا تنغلق حوافُّها على امتدادات أرضية ساكنة، بل تمضي على طول البحر بغير نهايات، تحتضن أفقًا مفتوحًا على اتساعه، تلك هي مدن البحر البهية.

مدن البحر تصنع تاريخ الحكايات الحلوة وترسم أشياء البهجة نوابض حياة، هكذا نحب الإسكندرية، حيث للأماكن والأحياء طلّتها وهيبتها، هنا تسترجع بعضا من تواريخك الشخصية والتي حكيتها للموج ذات شتاء وذات صيف بعيد، ثم هو الآن يُذكّرك بها، هنا أسماء ووجوه الناس والتفاصيل المغرقة في بديهية العادي الطيب، تلك التي تخصّك تمامًا وتُغذي متعتك وتبقى.

وبينما تمضي على امتداد بحر الإسكندرية، وحيث يطل صافيًا مدهشًا بعد طول مسير، تسمع نداء المقاهي التي تُطل على البحر متصالحة مع تقلبات الحياة، تبقى لا زالت كما رأيتها ومررت عليها ذات سنة بعيدة مضتْ، باعثة لدهشة ودفء إنساني ها هو يتجدد، إنها الإسكندرية تحمل بعض ملامح النضج عمرًا وتظلّ محتفية بألقٍ كامنٍ مقاوم لشيخوخة الزمان، كلما مضيْتَ بامتداد البحر تتوقَّف وستؤرخ الأماكن ما عرفتَ ويخصَّك، ستتذكر تلك الشوارع الجانبية وأنت تمضي معها في اتجاه البحر.

معمورة الإسكندرية هي عمق صفو المدن البحرية، هي كل ما سبق وأبهى، شاطئ مدينة البحر العظيمة، خيال الوهج، وسطور الشعر الأولى المرتبكة في وصف من تحب، الزهرة الأولى موضوعة في كوب زجاجي على سور شرفة أرضية، الكتاب مطوية صفحاته على تلك الفقرات والجمل التي آثرتها، صوت فيروز يطاول رذاذ الموج فينبعث طربًا صافيًا مرحًا.

تمضي الحياة هناك وتبقى مدينة الإسكندر زاهية مطلة على شرفات المتوسط لتحكي عن الموج والشجر والمقاهي والأماكن والناس، وتحمل نسَمات من البعيد البعيد مُعطَّرة بذاكرة البشر وتواريخ الحكايات وونس ما عرفه الناس وأحبُّوه.

إعلان

إعلان

إعلان