لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

الطريق إلى دمشق (٦): "في الرحيل الكبير أحبك أكثر"

الطريق إلى دمشق (٦): "في الرحيل الكبير أحبك أكثر"

ياسر الزيات
08:52 م الأربعاء 05 يوليو 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

ياسر الزيات

نودع المدن كما نودع حبيباتنا، بالتفاتة سريعة إلى الخلف، هي كل أملنا في أن تلتفت إلينا، في اللحظة نفسها، فتلتقي العيون، ونقرر ألا نرحل. "في الرحيل الكبير، أحبك أكثر"، يقول محمود درويش، كأنه يودع مدينة أحبها، لا مجرد حبيبة من حبيباته، أو قل: "كأنه يودع دمشق"، أو ربما كان هذا إحساسك في اللحظة التي يتضاءل فيها الزمن، وتنمو المسافة. تحب مدينة، فتقول لنفسك إنك ستعود، وتستنشق رائحتها قبل أن تدخل إلى هواء الطائرة المضغوط. قلت لدمشق إنني سأعود، وابتسمت، لكن هذا لن يحدث أبدا على ما يبدو.

لا أريد أن أكتب مرثية للمدينة التي أحببت، ولا أريد كتابة عاطفية يغلب عليها الحنين والبكاء، فهذا آخر ما تريده مني دمشق الآن، ولكنني أكتب لأعبر عن غضبي من الجميع. كيف أمكن لكل هؤلاء الذين أحببت أن يفعلوا في أنفسهم ما لا أحب؟ لا بد أن شيئا أفضل كان بإمكان أحد ما أن يفعله، ولا بد أن شيئا ما كان بإمكانه أن يوقف كل هذا القتل في بدايته. ولكن، هل يجدي البكاء على الدم المسكوب؟

ضحكت كثيرا في مطار دمشق، وأنا أستعد للعودة. لا تفرض سوريا رسوم دخول على المصريين، والكثير من الجنسيات العربية الأخرى. في المطار حضرني مشهد في فيلم لا أتذكر اسمه الآن، لافتتاح تياترو جديد. وفي المشهد، الذي لا بد أن إسماعيل يس كان مشاركا فيه، وقفت أمام الباب مجموعة من أصحاب التياترو تشجع المارة على الدخول، بالهتاف: "الدخول مجاني.. الدخول مجاني". واكتمل المسرح، لكن المتفرجين فوجئوا أثناء خروجهم بأن أصحاب التياترو يقطعون لهم تذاكر خروج. هذا هو ما حدث بالضبط في مطار دمشق. فوجئت بأن عليّ دفع رسوم تأشيرة خروج لتكتمل إجراءات مغادرتي. وظني أن البلاد العربية لو فرضت رسوم خروج في مطاراتها، هذه الأيام، لتمكنت حكوماتها من سد العجز في الموازنة.

وأمام ضابط الجوازات، عاودني الخوف الذي يحضرني كلما وقفت أمام ضابط جوازات في أي بلد عربي، بما في ذلك مصر طبعا. كعربي، أنت لا تعرف ما الذي تفكر فيه السلطات في البلد العربي الذي تنتمي إليه، أو ذلك الذي تزوره. كعربي في بلاد عربية، وخصوصا إذا كنت صحفيا، أنت مذنب إلى أن يثبت العكس، وقابلني لو أثبت العكس. في البلاد العربية مثلا، تخفي السلطات رادارات السرعة في أماكن غير متوقعة على الطرق، لكي تنصب فخاخا لمخالفي السرعة، على عكس ما يحدث في بلاد أوروبية. فالهدف في البلاد العربية هو تحرير المخالفات، أما الهدف في البلاد الأوروبية فهو ضبط السرعة لضمان سلامة البشر من الحوادث. لا أحد يضمن ما الذي يخبئه له ضابط الجوازات في بلد عربي، خصوصا إذا كان صحفيا مثلي اكتشف أن هناك من حصل على نسخة من مقاله الأول الذي أرسله من الفندق عن سوريا. ابتسم ضابط الجوازات السوري، وهو يختم جواز سفري، وشعرت كأنه يقول لي: "حمدا لله على سلامتك".

أحببت كل شيء في سوريا، وغفرت لها كل شيء، إلا صدمتي في بردى. قبل سفري، نبهني صديقي الشاعر جرجس شكري إلى أن نهر بردى ليس بضخامة واتساع النيل. ولكنني عندما رأيت بردى صدمت من ضآلته، إذ بدا لي مجرد ترعة صغيرة، ولم يعوض الصدمة إلا تدفقه وعنفوانه. يرتبط بردى بالنسبة لنا، نحن المصريين بقصيدة أحمد شوقي الشهيرة: "سلام من صبا بردى أرقُّ/ ودمع لا يُكفكف يا دمشقُ". وهي نفسها القصيدة التي يقول فيها: "وللحرية الحمراء باب/ بكل يد مضرّجة تدقُّ". أكان لا بد للحرية أن تكون حمراء يا شوقي؟ أكان لا بد أن تكون الأيدي مضرجة بالدم؟

إعلان

إعلان

إعلان