إعلان

كهف  "الزمن الجميل"

كهف "الزمن الجميل"

د. هشام عطية عبد المقصود
08:56 م الجمعة 21 يوليه 2017

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

يحلو للناس - وخاصة ممن قطعوا شوطا ممتدا فى رحلة الحياة- أن يصفوا زمنا عرفوه وأياما عاشوها بطريقتهم لبيان خصوصيتها وفرادتها، وهكذا يضعوها متألقة بارزة فخا جميلا يحمل عنوانا مثيرا اسمه "الزمن الجميل"، وتحت مظلته الممتدة وسطوة صناع حكاياته ونفاذ دورهم فى الحياة، تكبر مفرداته وتنمو تواريخه لتكون أسطورة كبيرة تضم حكايات كثيرة، لا تخلو من امتدادات "التزويقات" لتتحلى بجدارة الدخول فى ذلك "الزمن الجميل".

تحت وطأة هذا التصور وذلك الزمن يتم تكبير النقاط المضيئة فى حياة صاحبها أو فى تاريخ المجتمع لتشكل نجوما زاهرة، ثم تكبر لتكون حاجبا للحقائق وصانعا لإطار مدهش بديل لا يُظهر الخفايا والأحزان والإخفاقات فى ثناياه، ويتشكل مطلقا جديدا يتم زرعه فى أرض المطلقات الحياتية التى يحلو للبشر أن يقبعوا فى كهوف جبالها، متلذذين بتناول سوائل حكاياتها شرابا سائغا مخلصا فى ماضويته.

وعبر الوقت يتشكل وهم زمن جميل سرى يعرفونه وحدهم، كان كل شيء فيه أجمل، الغناء والطعام والهواء ولون السماء، نقطة حنين مصطنعة يجلس فى رحابها المنشدون ويقبعون فيها زمنا لا يبارحونه، حيث يقومون متعمدين بإخلاء كامل مساحة الزمن القديم من كل الأزمات ويصنعون ظهورا مبهرا لأحداث أخرى أجمل يعرفون بها ذلك الزمان فيصير فى عرفهم أبهى.

ستعنى كثير من الأعمال الأدبية والفنية من دون تعمد ببناء جدران هذا الزمن الجميل، وستحمله عناوين كثير من أبواب الصحف والبرامج كليشيها شائعا، وسيتكفل كل الكبار متحدين، من دون نداء يجمعهم ومن دون اتفاق فى الموعد بنثر بذوره داخل كل أسرة فيتكون ويحضر كامل مشهد الزمن الجميل تفاصيلا خلابة، والذى سيكون تأكيد خصوصية جمالياته لا يكتمل سوى بالحديث عن غياب عناصره ومفرداته فى الحياة، ليعمل كل ذلك على ترسيخ الأثر المراد ببناء حديقة " الزمن الجميل" ويتم غرس شجرها بدأب فى عقول أجيال أخرى، تذكيرا بأن مُضى الزمان علامة لا تخطئ على جمال ما كان، وحيث يقوم صناع الزمن الجميل بالحكي عنه كأنه شئ غامض زار الأرض ذات مرة واحدة عاصروها، وفارقها وترك حلم عودته قائما.

تُفسد مظلة الزمن الجميل هذه كثيرا من جماليات التفاعل مع الحياة المعاصرة فى كل وقت، حين تمتد سطوتها نحو تشكيل الواقع وفرض اختياراته، ومع أن الكل يدرك يقينا أن الجهد يقل مع العمر والذاكرة تضعف مع الوقت وحتى جرأة التعامل مع الأشياء بأفكار خارج حدود المألوف تقل رويدا، سينتصر مجتمع الزمن الجميل لكل ما هو عكس ذلك، ليكون الزمن الجميل زراعة ممتدة يرعاها ويحصدها من يعيشون فى حديقته، وتكتفى حين تصفو النية بالنظر وادعاء التفهم لكل مبادرات أولئك الذين يصيرون فى هذا العرف من " الصغار " والذين لم يمنحهم الحظ تواجدا فى ميقات الزمن الجميل.

أخطر ما يصنعه الزمن الجميل هو الإقصاء، وتقليل أوجه التطور فى الحياة حين تنغلق على فكرة أو تصور، وحين ينظر أصحابه وهم النافذون بتعال الى أزمنة أخرى أحدث فلا يجدون أشياءهم أو ما يعرفونه ويألفونه ويحبونه، فتكون هذه الحياة مجرد زمن، وفقط هى أيام و"تعدى"، فيجتهدون فى بناء دوائر من أصحاب الزمن الجميل وشلة الزمن الجميل، دوائر تنغلق ولا تنفتح أبدا حتى تسلم الى دوائر أخرى دخلت بفعل العمر تجربة الزمن الجميل ومن جديد.

الحقيقة أنه لم يوجد ذلك الزمن الجميل أبدا، وقد وصف الله تعالى الحياة جميعها بأنها كبد، ولم يوجد حتى فى تاريخ الأزمان والمجتمعات شيئا مما صنعه الناس فى خيالهم وعاشوا به على أهه زمنا جميلا صافيا عذبا، لابأس، لكن هل نجرؤ على القول أن تكريس ذلك الزمن بصيغ واعية أو غير واعية هو مضر بالضرورة بالمستقبل ؟ وأنه يعبر عن نوع من مقاومة تبعات خوض الحياة إبداعا وإضافة الآن.

يصنع " الزمن الجميل" أسطورته ويمضى ويقوم مؤيدوه الحصريون بإدخال أجيال أخرى بدأب الى ساحة تصديقه، فتحمل الأغانى مسمى آخر هو أغانى الزمن الجميل، وأفلام الزمن الجميل، ونجوم الزمن الجميل، وكأن الحياة تسرى نحو نقصان وتصحر وفناء.

لم يكن الزمن يوما سوى ماعرفه الكل، تدور داخله فى توال محكم الطيبات والسيئات من الأشياء تحملها الأيام وتمضى معها، ربما يكون "تعب الحياة" مؤشرا على كثافة استدعاء زمن جميل، يخلو كل العالم فيه من الشرور، ولكن علينا أن نتذكر أنه وبينما كان العالم براحا ممتدا كاملا أمام قابيل وهابيل وفى طور بدء الخلق تمت الجريمة الأبشع التى تؤرخ للشر فى الكون، وحين لم يستطع أحدهما تحمل وجود أخيه فأنهى متعمدا حياته قتلا من أجل أشياء الحياة الفانية.

هذا الزمن الجميل المدعى، يمكن تفهم حضوره الفردى لدى البعض، وفقط من غير أن تمتد سطوته الجماعية ورهابه المجتمعى وهو يصنع أسطورته الواهية، التى لا يجدر منحها فرصة مد أحابيلها لتجذب أجيال جديدة عليها أن تعيش الحياة وفق تجربتها الشخصية وخصائص عصرها، تأخذ من الأفكار المتاحة من غير وصاية، وتصنع حالة حضورها الخاصة من غير وطأة تحميلها كل مفردات ما يصر عليه البعض بأنه كان كله هكذا زمنا جميلا.

إعلان

إعلان

إعلان