إعلان

ياسر الزيات يكتب: ''أعترف بأنني قد عشت'' متشردا

ياسر الزيات

ياسر الزيات يكتب: ''أعترف بأنني قد عشت'' متشردا

12:28 م الجمعة 04 أبريل 2014

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع

بقلم - ياسر الزيات :

أجمل وجبة في حياتي كانت رغيفين من الخبز الحاف، بعد أكثر من ثلاثة أيام من الجوع الإجباري. ما زلت أشعر بالطعم نفسه، بالحلاوة نفسها، في فمي كلما تذكرت.

كانت جيوبي وقتها فارغة أكثر من فراغ معدتي، ولم يكن هناك أمل. من عاشوا متشردين فترة من حياتهم يعرفون أن المشي هو الحل لقتل الجوع أحيانا.

مشيت في شوارع القاهرة، هائما، وربما كنت ناقما أو يائسا، ناظرا إلى الأرض. تلك الأرض، التي ربما كنت أفكر في العودة إلى ترابها طوعا، قررت أن تمنحني هدية.

عشرة قروش بكاملها كانت ملقاة في انتظاري. ربما سقطت من شخص أقل جوعا، لكنني لم أفكر كثيرا والتقطها سريعا. اشتريت رغيفين ساخنين من الخبز الحاف، والتهمتهما سريعا. ذهب الجوع، الآن، ليأتي السؤال اليومي: ''أين سأنام اليوم؟'': في أي حديقة؟ في أي مسجد؟ عند أي صديق؟

كان الوقت يناير، ويناير أقسى الشهور، وأكثرها برودة في مصر. وكنت منهكا، عندما طرقت على باب أحد أصدقائي عند منتصف الليل، أملا في ساعات من النوم، لكن أحدا في الداخل لم يجب. في تلك اللحظات تهاجمك الظنون: هل ملّ من استضافتي؟ هل تحولت إلى عبء عليه؟ لماذا لا يفتح؟ هل سافر فجأة؟ ثم أين أذهب؟ في المسجد، سيوقظونك كل حين ليخبروك أنه مكان للعبادة وليس للنوم. وفي الحديقة، ربما تموت متجمدا، ويدفنونك في مقابر الصدقة التي تخفي أجساد غرباء لن يعرف أهلهم شيئا عن مصيرهم. ما فائدة تلك الكتب التي أحملها من مكان إلى مكان؟ وما فائدة تلك الكتب التي أحملها في رأسي إذا لم تساعدني على عيش كريم؟ وضعت الكتب على السلم، لأحتمي من برودته، وجلست عليها، ونمت كجنين. ربما حلمت بأن صديقي سيأتي، وربما حلمت بسريري في مدينتي البعيدة، أو بالغرفة المخصصة لي في منزل خالي في حي مصر الجديدة الراقي.

ليس مهما ما تحلم به، لكن المهم ما تفعله.

كان تشردي اختياريا. أردت أن أثبت لنفسي أن بإمكاني أن أكون مستقلا عن عائلتي. لم أكن أذهب إلى أخي في المدينة القريبة من القاهرة، ولا إلى خالي في الحي الراقي، إلا نادرا، وفي أبهى صورة: مستحما، مرتديا ملابس نظيفة تظهر أن لدي ما يكفي من النقود، ومبتسما. كم كانت الحياة قاسية وقتها، لكن روحي صهرتها نار التجربة.

كانت هذه المرحلة، عندما تأملتها لاحقا، أعظم تجربة في حياتي. منها حصلت على مناعة ضد القسوة، وضد امتحانات الحياة. وكلما مر بي موقف صعب، كنت أنظر إلى الوراء، متسائلا: ''هل هذا أكثر قسوة مما عشت؟''، فتكون الإجابة: ''لا''. أقول لنفسي: ''استمر إذاً، لا تجعل شيئا يوقفك، تقدم، إلى الأمام، لا تنظر خلفك إلا لتتأكد أنك الآن أقوى، وأكثر نجاحا''. وهكذا، كلما نظرت إلى الخلف، أراني أتقدم أكثر إلى الأمام.

وضع الشاعر التشيلي بابلو نيرودا عنوانا فرعيا لمذكراته يقول: ''أعترف بأنني قد عشت''، فليسمح لي بأن أضيف إليه كلمة واحدة: ''أعترف بأنني قد عشت متشردا''، لكن التشرد أعطاني درسا في الأمل، في القوة، في محبة الحياة مهما اشتدت قسوتها.

في ليلة صيفية، اخترت أن أنام في حديقة عامة قرب ميدان التحرير. قبل الفجر، استيقظت على شيء رطب على جبهتي، واندهشت من احتمال أن يكون هذا مطرا صيفيا مفاجئا. فتحت عينيّ، فوجدت كلبا يلعق جبهتي. ربما أشفق عليّ. بعض الكلاب يكون أكثر حنانا، أحيانا، من كثير من البشر، لكن هذا لم يدفعني يوما لكراهية أحد من البشر. أحبوا الحياة لتحبكم، أحبوها تستجب لكم.

* هذا المحتوى من راديو هولندا

 

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة.. للاشتراك ...اضغط هنا

إعلان

إعلان

إعلان