إعلان

الوضوء الفكري

الوضوء الفكري

01:42 ص الإثنين 04 نوفمبر 2013

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع


بقلم - عزالدين شكري:

ثلاثة ملوثات فكرية ونفسية تمنعنا من العثور على مخارج حقيقية من المأساة الجماعية التى نعيشها: اليأس، والعديد، والإنكار. اليأس يثبط الهمم ويقعد عن العمل ويمنعنا من التفكير السليم فى أصل المشكلة أو تداول حلول معقولة لها. ولهذا فاليأس مريح، إذ يعطيك تصريحاً بالاسترخاء وتقبل ماهو آت: لم تقلق؟ لم تتعب نفسك إن لم يكن بوسعك فعل شىء يغير واقعك ويؤثر على ما يجرى من حولك؟ وحتى لو ساءت الأمور وتدهورت أحوالك لدرجة الألم، فاليأس يعينك على تحمل الألم: ''مقدر ومكتوب، وعليك احتماله''. وإن كنت ثورياً، أو مثقفاً، فيمكنك أن تصل ألمك هذا بألم البشرية الأصلى، بتناقضات الوجود الإنسانى كله، وترى فيه تشابهاً مع صنوف الألم التى يعانيها أصحاب الضمير والإحساس فى المجتمعات الأخرى. وهكذا يصبح يأسك وألمك جزءاً من أسلوب حياتك، شارة تعرف بها، وتدفع بها من يحاول استدراجك لأى شكل من أشكال السعى. اليأس قوقعة كبيرة تحمى وتعتنى، بل وتسلى صاحبها أيضاً.

العديد مكمل غذائى لليأس. وهو آتٍ من عمق التراث الشعبى المصرى. فى المآتم التقليدية تقوم النساء بتعداد مآثر الفقيد والخسارة التى لحقت بأهله جراء رحيله، وفى الأيام العادية يقوم الرجال والنساء بتعداد جوانب المأساة التى نعيشها طول النهار. على المقاهى وفى البيوت ومن خلال شبكات التواصل الاجتماعى، تولد يومياً ملايين الكلمات التى تصف جوانب الفشل الجماعى الذى يعتصرنا، من مشاكل فى الحياة اليومية إلى أزمات سياسية إلى نقائص فى أداء الدولة لوظائفها. أين تذهب كل هذه الكلمات؟ ولأى هدف نقولها؟ التعبير عن إحباطنا أو التسرية عن نفوسنا، أو التظاهر بأننا مهتمون بالأمر أو نفعل حيلة شيئاً. طقس جماعى يلفنا: ننفث ملايين الكلمات فى الهواء كدخان التبغ: نسمم بها صدورنا وهواءنا، وتغيم على رؤيتنا لما حولنا، ونغذى بها يأسنا الجماعى.

أما الإنكار فهو داء الذين يزعمون النجاة من اليأس والعديد. هؤلاء الذين يركزون على العمل، لأنهم يرفضون اليأس وتجزع نفوسهم من العديد، لكنهم كالجريح الذى يحاول وقف الألم بابتلاع أقرب دواء إلى يده دون أن يكون بالضرورة هو الدواء الملائم. يريدون الخروج من الأزمة فيتبعون أقرب الحلول إليهم دون فحص كافٍ لأثر هذه الحلول وتداعياتها. إن حاولت لفت أنظارهم لها أنكروها، أو باغتوك بسؤال غاضب عن الحل البديل، فإن وصفت لهم بديلاً ناجعاً احتجوا بأنه يتطلب مجهوداً، أو وقتاً، أو أشياء لا قبل لهم بها (فهم فى أعماقهم أيضاً يائسون). إن قلت لهم إن الحل القريب السهل ليس حلاً امتعضوا من تشاؤمك، وطالبوك بأن تتعاون لإنجاح هذا الحل. وطبعاً لا ينجح الحل القريب المستعجل الذى ينكر جانب من الواقع، ولا يفلح الدواء الغلط فى علاج الأزمة. شدة الألم لا تجعل من الحل الخطأ صواباً، وإنكار مانكره مثل التقاعس عن العمل، إن لم يكن أسوأ.

تنحية اليأس جانباً، والتوقف عن العديد، وتجاوز أشباه الحلول القائمة على إنكار الواقع، ضرورى لتأهيل عقولنا ونفوسنا للنظر والفهم. هو نوع من ''الوضوء الفكرى'' إن جاز التعبير، ضرورى لإفساح المجال فى عقولنا ونفوسنا كى نرى أبعاد أزمتنا وحلولها، ثم نعثر على أبواب للخروج منها، إن لم نطهر عقولنا ونفوسنا مما فيها من أفكار ومشاعر قديمة، ملوثة ولا شك من جراء التلوث العام، فمن الطبيعى أن نرى أزمتنا بشكل مشوه، وأن تكون حلولنا ـ أو ردود أفعالنا – أيضاً مشوهة، ونظل نتخبط فى أزمتنا.

أكتب هذه الكلمات وأنا أفكر فى تعليقات القراء: سيقول قارئ أنى أضيع وقتى ووقته، وأننا قد وصلنا لحال لم يعد يجدى معها محاولات الحل وإنما انتظار انهيار مابقى ثم، ربما، البناء من جديد. وسيصف قارئ آخر فشل النخبة أو فشل الحكومة والدولة، ثم سيتطوع قارئ بنصيحة أن ندع الكلام جانباً لأن الناس شبعت كلام وعلينا بدلاً من الكلام أن نبدأ فوراً بكذا أو كذا. وأقول لهؤلاء القراء أن يعيدوا قراءة المقال من أوله، فلا اليأس ولا العديد ولا التعجل سيخرجنا مما نحن فيه. تطهير عقولنا ونفوسنا من هذه الملوثات الفكرية والنفسية ليس ترفا بل ضرورة كى نتمكن من التفكير السليم والعثور على حلول حقيقية للأزمة. لا أطمح فى إقناع القراء بترك عاداتهم الفكرية والنفسية، فلا أحد يحتفظ بوضوئه طيلة الوقت. لكنى أطلب منهم تنحية هذه الملوثات جانباً فى لحظات التفكير فى أزمتنا، ولو مرة كل أسبوع، عسى أن نتمكن سوياً من فهم أصل الأزمة وأبواب الخروج منها.

 

لمتابعة أهم وأحدث الأخبار اشترك الآن في خدمة مصراوي للرسائل القصيرة..للاشتراك... اضغط هنا

 

إعلان

إعلان

إعلان