لماذا أعادت المحكمة الإدارية العليا الضباط الملتحين للعمل؟
كتب- محمود الشوربجي:
أودعت المحكمة الإدارية العليا، الدائرة الرابعة موضوع، برئاسة المستشار الدكتور محمد ماهر أبو العينين نائب رئيس مجلس الدولة، حيثييات حكمها بعودة ضباط الشرطة الملتحين للخدمة الفعلية العاملة بهيئة الشُّرطة بذات أقدميته السابقة مثلما كان بين أقرانه، وإلغاء قرار وزير الداخلية بعزله من وظيفته.
وقالت المحكمة في حيثيات حكمها، اليوم الأحد، إنَّه بالنِّسبة لمَدَى شرعيَّة إعفاء اللِّحيَة للرِّجال أم حلقها وفقًا لأحكام الشَّريعة الإسلاميَّة، فإنَّ المحكمة ترى أنَّ المَسألَة تَتعلَّق بدَلالة الأمْر والنَّهْي في القُرآن والسُّنَّة، والتي انتهى علم أُصول الفقه إلى كونها ليست كلها للوُجوب بل منها ما يكون على سبيل النَّدْب، خاصَّة وأنَّ القُرآن الكريم لم يتضمَّن نصًا صريحًا قاطعًا في شأنها وإنما أوردتها السُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة، فيضحى السؤال في مَسألَة إعفاء اللِّحيَة هل هي للوُجوب أم للنَّدب؟
وأضافت المحكمة، الثَّابت مِن البحث المُتعمِّق في أُصول المَسألة أنَّ العلماء اختلفوا على مر العُصور والمجتمعات في الحُكم الشَّرعي للِّحيَة وإعفائها أو حلقها أو نتفها أو الأخذ مِنها، ما بين منكر لهذا أو ذاك أو مجيز له، وتنوَّعت آراؤهم ما بين جعل أيٍّ مِن ذلك سُنَّة واجبة أو سُنَّة مُؤكَّدة أو بِدعة محرَّمة أو مِن سُنَن العادات أو مِن سُنَن الفِطرَة التي هي مِن المُستحبَّات أو المَكروهات أو مِن سُنَن العادات لقومٍ أو لبيئة مُعيَّنة أو مِن خصائص النَّبيِّ، ولكل رأيٍّ أدلَّته وأسانيده الشَّرعيَّة بناء على اختلافه في فهم "دَلالة الأمْر" في الحديث النَّبوِي الشَّريف، على النحو الموضح جميعه في السابق. ويضحى توصيف كل هؤلاء العلماء الأجلاء أنهم مجتهدون، فلا يجب إنكار بعض اجتهاد الآخرين في الرَّأي للبعض الآخر، وإنما يُقبَل الاختلاف عمومًا كنوع مِن اختلاف التَّنوُّع وليس التَّضاد.
وبالتالي ففي حال اختلاف العلماء على حُكم شرعيٍّ مُعيَّن، يجب على كل مُسلمٍ أنْ يختار فيه برويَّة مِن الاجتهادات الشَّرعيَّة للعلماء وأسانيدها ما يطمئن إليه قلبه وثوابته، وفق ما يُناسب فطرته وثقافته وأحواله الاقتصاديَّة والاجتماعية والوظيفيَّة، دون أنْ يَضرَّ بصالح البِلاد أو العِباد أو حُرِّيَّاتهم. وبالمِثْل يحق للمُشرِّع في المُقابِل أيضًا حال اختلاف العلماء على حُكم شرعيٍّ مُعيَّن، أنْ يَضَعَ مِن النُّصوص القانونيَّة التي تتفق مع أرجح تِلك الآراء، بُغيَة تنظيم السُّلوك والمَظهر الخارجي والمَلبَس لفِئات محدَّدة مِن العامِلين المُنتسبين لمَرافِق إداريَّة مُعيَّنة بما يحقِّق الصًّالح العام للبلاد وللمِرفق معًا، طالما لا تخالِف صراحة أو ضِمْنًا أيًا مِن أركان الإسلام أو ثوابت أحكامه المُتَّفق عليها، وفي ظلِّ اعتِبار مبادئ الشَّريعة الإسلاميَّة مَصدرًا رئيسيًا للتَّشريع، على أنَّ يخضع ذلك كله للرِّقابة القضائيَّة.
وتابعت أن َّ التزام العامِلين بالدَّولة عُمومًا بالقانون والقواعد المُنظِّمة للعمل داخل مَرافقها، والتزام ضُبَّاط ورجال هيئة الشُّرطة خُصوصًا بالتَّعليمات الانضباطيَّة والعُرف العام السَّائد داخل الهيئة الشُّرطيَّة، لهو التزام قانوني ينأى عن المخالَفَة، وأهم وأجدى لصالح البلاد والعِباد. إذ يجب عمومًا الالتفات إلى الأمور والتَّعاليم الإسلاميَّة الغرَّاء التي تحتاجها الأمَّة بأكملها في دروب تقدُّمِها ورُقيِّها والنَّأي عن الجَدَل في القضايا الفقهيَّة الخِلافيَّة.
وأشارت أنَّ المُشرِّع في قانون هيئة الشُّرطة المُشار إليه أنشأ نِظامًا مُنفردًا لإحالة ضُبَّاط الشُّرطة إلى الاحتياط، فأجاز لوزير الدَّاخليَّة أن يحيل الضُّبَّاط - غير المُعيَّنين في وظائفهم بقرار جمهوري - إلى الاحتياط لمُدَّة لا تزيد على السنتيْن، بناءً على طلبهم أو طلب أجهزة وزارة الداخليَّة لأسباب صحية تقرّها الهيئة الطبية المُختصَّة، أو إذا ثبتت ضرورة وأسباب جديَّة تتعلَّق بالصَّالح العام لهيئة الشُّرطة أو للبلاد عمومًا، وذلك للضُّبَّاط مِن دون رُتبة "اللواء"، وبعد أخذ رأي المجلس الأعلى للشُّرطة في أيٍّ مِن هذا، على أنْ يُعرَض أمر الضَّابط المحال قبل انتهاء مُدَّة الإحالة على المجلس الأعلى للشُّرطة مِن جديد لتقرير إحالته إلى المَعاش أو إعادته إلى الخِدمة العامِلة، تَبَعًا لاستمرار الأسباب الجِدِّيَّة للإحالة إلى الاحتياط مِن عدمها. ومن ثم يضحى نِظام الإحالة إلى الاحتياط مختلفًا ومُستقلًا تمامًا في طبيعته القانونيَّة وأهدافه وإجراءاته عن نِظام تأديب ضُبَّاط الشُّرطة، ويمسى هو الأَوْلى بالاتباع مِن قِبَل الجهة الإداريَّة القائمة على مرفق الشُّرطة في الحالات التي تتعلَّق جديًا بالصَّالح العام والتي تدخل في زمرتها وقائع الاختلاف المُستمِر للمَسْلَك الانضِباطي للضَّابِط في المجْمَل عَن الأعراف والتَّعليمات الشُّرطيَّة الانضباطيَّة، خاصة مع صعوبة مُعالجة بعض هذه الوقائع بنِظام التَّأديب لأن احتمالات العَوْدِ فيها أقرب مِن درئها، فضلًا عن أنَّ سُلطة الإدارة التَّقديريَّة في الإحالة إلى الاحتياط ثم إقرار عودة الضَّابط مِن الاحتياط إلى الخِدمة العامِلة أو إحالته إلى المَعاش تخضع كُلِّيَّة للرِّقابة القضائيَّة.
الأمر الذي يغدو معه انعطاف الجهة الإداريَّة إلى وسيلة التأديب في مَسألات هي في الأصل خاضعة لسُلطتها التَّقديريَّة في الإحالة إلى الاحتياط نوعًا مِن أنواع الانحراف المُمنهَج في استعمال الإجراء القانوني الذي أوجب المُشرِّع اتِّباعه - فضلًا عن إبراز الواقع العَمَلي لعدم جَدوى التَّأديب في معالجة بعضها - إذ أنَّ لجوء الجهة الإداريَّة إلى اتخاذ الإجراءات التَّاديبيَّة قِبل الضُّبَّاط في المَسائل ذات الأسباب جديَّة المُتعلِّقة بالصَّالح العام تعد وسيلة قانونيَّة غير مُباشرة لإهدار حُقوقه باعتبار أنَّ نهايات التَّدرّج الجزائي لوسيلة التَّأديب قد تودِي به أن يصير ضابطًا معزولًا مِن وظيفته، في حين أن نِظام الإحالة إلى الاحتياط يُعيده في نهاية المطاف إلى الخِدمة العامِلة مرَّة أُخرَى أو يجعله ضابطًا محالًا إلى المعاش بما يُتاخمه مِن حقوق أدبيَّة وماليَّة وصحيِّة واجتماعيَّة لا تَتأتَّى للضَّابط المَعزول مِن وظيفته.
وأوضحت إنَّ الثَّابِت مِن الأوراق، أنَّ الطَّاعن قد ارتضى طواعيَّة واختيارًا بإرادته الحُرَّة الانخراط في العمل بمرفق الشُّرطة المِصريَّة، وأقسَم قبل مُباشرة أعمال وَظيفته اليَمين القانونيَّة باحترام الدُّستور والقانون ومُراعاة سلامة الوَطَن وأداء واجبه بالذِّمَّة والصِّدق، ومَارَس أعماله كضابِط شُرطة لسنوات طِوال، مُلتزِمًا بضوابط هذا المِرفق ذي الطَّبيعة الخاصَّة والتي مِن بينها الالتزِام بزيٍّ خاص ومَظهر لائق يحكمه القانون والقرارات والتَّعليمات الانضباطيَّة، ومُتدرِّجًا في الرُّتب والوظائف الشُرطية وَسْط أقران دُفعته دون تضييق مِن الجهة الإداريَّة المَطعون ضدها عليه في ممَارَسَة شعائرَ الدِّين الإسلامي الحَنيف مثله مِثل أقرانه طوال خِدمته الوظيفيَّة.
فيديو قد يعجبك: