إعلان

العلاج بالسرد: كيف تتأثر شخصيتك بطريقة سردك لأحداث حياتك؟

08:56 م السبت 01 يونيو 2019

العلاج بالسرد

لندن (بي بي سي)

تخيل أن أسرتك انتقلت خلال طفولتك للعيش في منطقة مختلفة تماما من بلادك، وفي المدرسة الجديدة التي التحقت بها هناك تعرضت للتنمر للمرة الأولى في حياتك. الآن وأنت تتأمل هذه الفترة من حياتك، هل سترى أن ما جرى لك من تنمر كان إحدى حلقات سلسلة طويلة من الأحداث التي بدأت بشكل رائع ثم انقلبت إلى النقيض؟ أم أنك ستعتبره أحد الأمثلة على التجارب القاسية التي أفضت إلى نهاية سعيدة؛ كأن أدى ذلك التنمر - مثلا - إلى صقل شخصيتك، أو إلى أن تتعرف على شخص أصبح صديقا صدوقا لك فيما تبقى لك من عمر؟

ورغم أنه لا توجد في الظاهر أي علاقة بين الطريقة التي تروي بها قصة مثل هذه - حتى ولو لنفسك - وبين طبيعة شخصيتك الحالية؛ فإنه تبين أن الأسلوب الذي تفسر به حياتك وتروي من خلاله وقائعها، يُخلّف تأثيرات عميقة على طبيعة شخصيتك.

لكل منّا على أي حال ما يشبه سجلا يتضمن الأحداث الرئيسية التي عايشناها في حياتنا وما شهدناه خلالها من نقاط تحول وذكريات، وكلها دونّاها نحن في الذهن، دون حتى أن ندرك ذلك في أغلب الأحيان. فهذه الحكايات والقصص تبقى في أذهاننا، سواء اخترنا أن نولي لها قدرا كبيرا من الانتباه والاهتمام الواعيين، أو لا، إذ أنها تُضفي على وجودنا معناه، وتُشكّل الأساس لإحساسنا بهويتنا. فأنت وقصتك صنوان لا ينفصلان. وقد أشارت دراسة جديدة أعدها فريق قادته الباحثة كيت ماكلاين من جامعة ويسترن واشنطن إلى أن "القصص التي نرويها عن أنفسنا تكشف عن ذواتنا وتبنيها وتُبقيها وتقويها على مر الزمن".

وتمثل هذه الدراسة جزءا من أحدث الأبحاث التي أُجريت لسبر غور فكرة مثيرة للاهتمام، مؤداها أن القصص الشخصية الخاصة بنا، تتضمن الكثير من العناصر الثابتة والمستقرة، التي تكشف عن أشياء متأصلة تخصنا، بالرغم من أننا ننقحها ونُحدثّها بشكل مستمر، إذ أن تلك الحكايات تعكس جانبا أساسيا من شخصياتنا.

وقد شرح الخبير الرائد في شؤون التحليل النفسي للشخصية، دان بي ماك آدمز، وهو أحد الباحثين المتعاونين مع ماكلاين، عبر ورقة بحثية مؤثرة وذائعة الصيت حملت اسم "سيكولوجية قصص الحياة"؛ أن اختلاف الناس في المعايير التي يحددون على أساسها أي القصص التي مروا بها في حياتهم كانت مؤثرة أكثر من غيرها، ربما يتشابه مع التباين القائم بينهم في سمات نفسية تقليدية على نحو أكبر، مثل طباعهم وخصالهم على سبيل المثال.

ومنذ أن بلور ماك آدمز هذه الفكرة قبل نحو عقدين من الزمان؛ تراكمت الأدلة العلمية التي تدعمها، لتشير إلى أن الطريقة التي نروي بها الأحداث التي مرت بنا في حياتنا، تشكل جانبا ثابتا من شخصياتنا جنبا إلى جنب مع أهدافنا وقيمنا وخصالنا الشخصية.

وفي هذا السياق، أبرزت دراسات أخرى أهمية فكرة كون القصص الحياتية جزءا من شخصية كل منّا، بعدما تبين أن لطريقة روايتنا لها، تأثيرات على صحتنا العقلية وعلى سعادتنا بوجه عام. فإذا كنت مثلا من بين الأشخاص الذين سيتذكرون الإيجابيات التي نجمت عن موقف التنمر الافتراضي، الذي تحدثنا عنه في بداية هذه السطور، فستكون على الأرجح ممن ينعمون بقدر أكبر من السعادة والرضا عن النفس في حياتك.

ويثير ذلك احتمالية مثيرة للاهتمام، تتمثل في إمكانية أن تعود عليك فوائد حقيقية، من وراء تغييرك لطريقة سردك لما مررت به في حياتك من أحداث وللنقاط التي تركز عليها في هذا السياق. وفي واقع الأمر، تشكل مساعدة الناس على إعادة تفسير ما يعايشونه في حياتهم من مواقف في إطار بناء بشكل أكبر، أساس ما يُعرف بـ "العلاج بالسرد". فالسجل الموجود في ذهنك، والذي يضم بين جنباته القصص الشخصية التي عايشتها، لا يمثل النسخة النهائية لها. وهو ما يعني أن طبيعة شخصيتك قد تتغير، إذا ما عدّلت هذه القصص وأنت ترويها.

لكن ما هي الأساليب المختلفة لسرد ما تمر به في حياتك؟ للإجابة على هذا السؤال، يمكن الإشارة أولا إلى الطريقة التي صنّف بها الباحثون السمات المختلفة لشخصية الإنسان، والتي تتمثل - بحسب أكثر نظريات البحث في هذا المجال موثوقية - في خمس خصائص، ومن بينها الانفتاح والتحلي بالضمير والشعور بالاضطراب والقلق وغيرها.

فعلى نحو مماثل، يبدو أن للمواقف التي نمر بها في حياتنا سمات رئيسية، يمكن من خلالها تعريف وتحديد سمات شخصية كل منّا. وقد كشفت الدراسات عن مجموعة متنوعة إلى حد يصيب بالدوار، للجوانب المختلفة للمواقف الشخصية التي يعايشها الناس خلال حياتهم.

ولاستخلاص السمات الأكثر أهمية لتلك القصص والمواقف من هذه القائمة الطويلة؛ أجرت ماكلاين وفريقها ثلاث دراسات شملت نحو ألف متطوع. وقد روى كل من هؤلاء المتطوعين إما موقفا بعينه مر بها في حياته أو سردا شاملا لخص فيه قصة حياته بأكملها. وبعد إجراء تحليل شامل لتلك القصص والحكايات؛ خَلُصَت ماكلاين وزملاؤها إلى أن هناك ثلاث سمات وأنواعا رئيسية تمثل الطريقة التي نحكي بها عن المواقف التي مررنا بها.

أولى هذه الأنواع "القصص ذات الموضوعات التحفيزية والمؤثرة"، والذي يتناول مقدار الاستقلالية التي عبر عنها الراوي في قصته وكذلك مدى التواصل الذي أشار - من خلالها - إلى أنه نشأ بينه وبين الآخرين. ويتعلق ذلك الجانب أيضا بما إذا كانت القصص التي سردها ذات طابع إيجابي أو سلبي بوجه عام، وما إذا كان يغلب عليها كونها كانت عبارة عن مواقف إيجابية انتهت على نحو سلبي أو العكس (هل انتقلت لمدرسة جديدة فتعرضت لتنمر ذي عواقب مُدمرة، أم أن التنمر أدى لنتائج إيجابية في نهاية المطاف؟).

أما النوع أو السمة الثانية فتتعلق بـ "مدى ما تتسم به طريقة السرد من منطق". ويتمحور ذلك حول مقدار التفكير الذي نكرسه لتأمل الخبرات الكامنة في المواقف والأحداث التي نتحدث عنها، ومدى ما نجده من معانٍ فيما مر بنا، وكذلك مدى قدرتنا على تمييز الروابط القائمة بين الأحداث الرئيسية في حياة كل منّا وبين الطرق التي غيرناها والتي لم نغيرها. وتتمثل السمة الثالثة والأخيرة في "الهيكل" أو مدى ما تتسم به قصصنا من عقلانية ومنطق فيما يتعلق بسياقها والحقائق الواردة فيها وإطارها الزمني.

ولعل من الواجب علينا أن نوضح هنا، ضرورة أن تتسم القصص الشخصية التي نرويها، بدرجة لا يُستهان بها من الثبات والاستقرار عبر الزمن، لكي يمكن اعتبار أنها تعبر عن جانب من جوانب الشخصية.

وقد أكدت دراسة أُجريت مؤخرا صحة هذه الفرضية. فعلى سبيل المثال؛ طلبت باحثة في جامعة إيمُري الأمريكية وزملاؤها من نحو 100 متطوع من البالغين، سرد مواقف من حياتهم خلال مقابلة. وبعد أربع سنوات، طُلِبَ من هؤلاء الأشخاص أنفسهم أن يرووا القصص ذاتها ثانية.

ومن المهم الإشارة إلى أن "تجانس" القصص التي رواها المتطوعون، ظل قائما خلال فترة إجراء الدراسة. كما خَلُصَ فريق الدراسة إلى أن الطرق التي نروي بها حكايات ذات طابع منطقي، تعكس جانبا ثابتا ومستقرا من جوانب الفروق الفردية التي يختلف بها كل منّا عن الآخر.

ويُضاف هذا الاستخلاص الأخير إلى نتائج مشابهة كُشِفَ عنها النقاب مؤخرا، من بينها أن مضمون الأحداث الخاصة بقصصنا الحياتية، يكتسب عنصر الاستقرار اعتبارا من منتصف مرحلة المراهقة، ويصبح متسقا بشكل أكبر كلما تقدمنا في العمر.

وقد تكون هناك تَبِعات مهمة لفكرة أن القصص التي نعايشها في الحياة، تعكس جانبا ثابتا ومهما بدوره من جوانب شخصياتنا. فقبل بضع سنوات، أجرى باحثون من الولايات المتحدة وكندا مراجعة لـ 30 تحقيقا تناولت مثل هذه القصص، وكشفوا عن أن هناك علاقة بين الكثير من الجوانب المتصلة بها وبين سعادة ورفاه من عايشوها.

فقد تبين أن احتمالية أن ينعم المرء بوضع أفضل على صعيد الشعور بالرضا عن حياته وتمتعه بالصحة العقلية كانت أكثر لدى من رووا قصصا إيجابية أو تضمنت قصصهم "عناصر تعويض" بشكل أكبر (كأن تروي أن فقدانك لوظيفتك أدى لخوضك غمار مسار مهني مختلف تستمتع به على نحو أكبر)؛ على الأقل هذا ما كشفت عنه أبحاث أُجريت على أفراد عينة من الغربيين.

ويُصْدق ذلك أيضا على من تعبر القصص التي يسردونها عن إحساس أكبر من جانبهم، بأنهم كانوا أبطال المواقف التي مروا بها ويتحدثون عنها، وعلى من أقاموا شراكات ذات مغزى بشكل أكبر مع المحيطين بهم. فهؤلاء كثيرا ما تتضمن الأحداث التي يسردون تفاصيلها؛ أحباءهم وأصدقاءهم المقربين، كأن يتحدثون مثلا عن أمور متعلقة بهواياتهم أو المناسبات السعيدة التي شاركوا فيها مع أبناء عمومة أو أصدقاء لهم على سبيل المثال.

كما أظهرت الدراسات أنه كلما كانت القصص التي نرويها ذات هيكل محكم بشكل أكبر وسرد ذو طابع منطقي على نحو أفضل، زادت قوة ارتباطها بالإحساس بمزيد من السعادة والرضا.

على الجانب الآخر، يرتبط التحدث عن قصص تتضمن عناصر سلبية بشكل أكبر، وتفتقر أكثر إلى الاستقلالية والشراكة مع الآخرين، بأن يكون من يروونها أقل سعادة في حياتهم.

علاوة على ذلك، هناك أدلة محدودة تفيد بأن زيادة السمات الإيجابية في القصص التي يرويها المرء عما عايشه في حياته من مواقف، تفوق في أهميتها مجرد كونها مؤشرا على وجود فوائد تعود عليه جراء ذلك فيما بعد. لكن الباحثين يقولون إن هناك حاجة إلى إجراء مزيد من الدراسات بعيدة المدى، لإثبات وجود علاقة سببية في هذا الصدد.

إذا هل يعني ذلك أن تنقيحك لتلك القصص، من خلال تفكيرك في الإيجابيات التي نجمت عن تجارب سلبية مررت بها مثلا، قد يُمَكِنُك من جعل شخصيتك أكثر قوة وصحة؟

الفكرة على أي حال ليست بعيدة الاحتمال بشكل كامل. ويمكن هنا الإشارة إلى نتائج دراسة طُلِب من مجموعة من المبحوثين فيها أن يسردوا تفاصيل مواقف حياتية تضمنت - وبشكل أكبر - خبرات سلبية أفضت في النهاية إلى نتائج إيجابية، فيما لم يُطلب من أفراد المجموعة الضابطة الأمر نفسه. فقد أظهرت النتائج أن من شملتهم المجموعة الأولى أبدوا - حتى بعد أسابيع من الدراسة - ثباتا أكبر على الأهداف التي يسعون لتحقيقها، عبر قولهم إنهم ينزعون لاستكمال المهام التي شرعوا في القيام بها.

وخَلُصَ الباحثون إلى أن تلك النتائج "توفر أدلة لا على إمكانية وضع شكل بعينه للقصص التي يرويها المرء عن مواقفه الحياتية فحسب، لكنها تشير كذلك إلى أن تغيير النهج الذي يفكر عبره الناس في الأحداث المهمة التي مروا بها في حياتهم وأسلوب حديثهم عنها أيضا، يمكن أن يؤثرا في الطريقة التي تمضي بها حياتهم قدما".

وهكذا يبدو أن ثمة شعورا بأننا نحن من يكوّن وينظم حقائقنا الخاصة، كما ذهب إلى ذلك الفلاسفة منذ أمد بعيد، وأن العالم يبدو لنا كذلك على الشاكلة التي نرسم بأنفسنا ملامحها.

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان