إعلان

رحلة على متن أسرع قطار على كوكب الأرض

06:15 م الإثنين 06 فبراير 2017

قطار شنغهاي الذي يربط بين مطار بودونغ الدولي وشبكة

(بي بي سي)

عندما حصلتُ على بطاقة صعود الطائرة من مكتب تسجيل وصول المسافرين والتحقق من بياناتهم في مطار بودونغ بمدينة شنغهاي الصينية؛ لم يكن متبقيا على مغادرة طائرتي للمدينة سوى ساعتين تقريبا. ولكن بدلا من أن أمضي نحو البوابات المُوصلة للطائرة، عدت أدراجي خارجا من المكان.

دار في خَلدي أنه إذا ما تعاملت مع الوقت بحكمة، فسيتسنى لي القيام بمغامرة أخرى وأخيرة قبل مغادرتي للصين، فقد كنت أرغب في ركوب أسرع قطار تجاري على سطح كوكب الأرض حاليا.

وقطار شنغهاي، الذي يعمل بقوة الرفع المغناطيسية، يربط بين مطار بودونغ الدولي وشبكة المترو في المدينة، وذلك بسرعة قد تصل إلى 430 كيلومترا في الساعة، وهو ما يزيد على ثلث سرعة الصوت.

ويشكل هذا القطار أعجوبة تكنولوجية يمكن أن تتصور وجودها في مدينة ملاهٍ، وليس على خريطة لوسائل النقل والمواصلات الموجودة في منطقة ما، وذلك في ضوء أنه واحدٌ من القطارات القليلة للغاية المتاحة للعامة في العالم؛ من تلك التي تسير على وسادة مغناطيسية.

ولا يصعب الوصول إلى محطة القطارات الواقعة في قلب المطار في ظل وجود لافتات إرشادية توضح الطريق إليها باللغتين الإنجليزية والصينية، بجانب رسم تخطيطي رائع لقطار يطفو فوق سكته الحديدية.

ولا يمثل هذا الرسم مبالغة ما أو تصويرا فنيا، فالقطارات المغناطيسية لا تسير على عجلات، وإنما تنزلق طافيةً على وسادة مغناطيسية، وهو ما يلغي أثر المقاومة الناجم عن احتكاك العجلات بسكتها. ولعله من المفاجئ العلم بمدى بساطة المبدأ العلمي الذي تعتمد عليه هذه التقنية.

فكل من لعب - ولو لمرة واحدة - بقطعٍ مغناطيسية، يعلم أن الأقطاب المتنافرة - الموجبة والسالبة - تتجاذب، بينما تتنافر الأقطاب المتماثلة. وهكذا تُسَخِّر القطارات المغناطيسية تلك القوة الناجمة عن التنافر، عبر استخدام أسلوبٍ يعتمد على تشغيل مغناطيسات كهربائية وإيقاف تشغيلها على نحوٍ متسارع، من أجل دفع العربات إلى الأمام بسرعات مذهلة.

وقد كان ركوب قطار شنغهاي أمرا يتعين عليّ تجربته؛ باعتباري من المهتمين بشدة بوسائل النقل والمواصلات، رغم أنني لست من هواة مراقبة القطارات والتعرف على أنواعها المختلفة، على وجه الخصوص.

استغرق الطريق إلى محطة القطارات عدة دقائق، وجدت نفسي بعدها أمام آلة لبطاقات الركوب، تتضمن خيارات عدة أخذت في التفكير فيها. فهناك بطاقة بسعر 80 يوانا صيني لركوب القطار في رحلة ذهاب وعودة.

فكرت في أن سعر هذه البطاقة أرخص كثيرا من ثمن بطاقة دخول متنزه "ديزني لاند" في شنغهاي. كانت هناك بطاقات مُتاحة للسفر في مقاعد الدرجة الأولى، لكنني لم أرغب في شراء واحدة لأنني أعتقد أن الدرجة الاقتصادية على القطار الأكثر تطورا في العالم يصعب أن تكون أدنى من المستوى اللائق.

بعد ذلك نظرت إلى الخريطة وترددت قليلا، في ضوء إدراكي لما أنا مقدمٌ عليه. فلو سار الأمر حسبما يُفترض، فسيقلني القطار بسرعة هائلة إلى منطقة تبعد 30 كيلومترا عن البوابة التي يُفترض أن توصلني إلى طائرتي.

يعني ذلك وصولي بعد أقل من ثمان دقائق إلى محطة "لونغ يانغ رود"، ثم مغادرة القطار على الفور، وركوب أول قطارٍ عائد إلى المطار. وفي حالة سير كل شيء على ما يرام، كنت سأُتِمُ رحلة الذهاب والإياب، التي سأقطع خلالها 60 كيلومترا، في أقل من 20 دقيقة.

أما إذا لم يحدث ذلك، فسأضطر إلى خوض نقاش "ممتع" مع أحد موظفي شركة الطيران، التي يُفترض أن أسافر على إحدى طائراتها، لأشرح له لماذا فوّت طائرتي.

لم يكن أمامي وقتٌ طويلٌ للتفكير. وهكذا وضعت ورقة نقدية من فئة مئة يوان في الآلة، وأنا اتنفس بعمق.

بعد لحظة واحدة، دلفت إلى قاعة تلمع ببريق أخاذ، وذات أعمدة مُذَهّبة، بينما كانت ساعةٌ رقمية تُظهر الوقت المتبقي حتى موعد انطلاق القطار التالي، ثانيةً بثانية.

كان عليّ الانتظار لنحو ثمان دقائق، لحين وصول ذلك القطار، فقد أدى ترددي أمام الآلة الخاصة ببطاقات الركوب، إلى أن أصل إلى الرصيف بُعيد مغادرة القطار السابق له مباشرة.

وقبل أن يصبح الوقت المتبقي على وصول القطار دقيقةً واحدة، دلف إلى المحطة بصوت مكتوم ودون ضوضاء قطارٌ مصقول أنيق أبيض اللون، مؤلف من أربع عربات.

فُتِحَت الأبواب المنزلقة لأدلف إلى عربة حديثة نظيفة، تحتوي على مقاعد مبطنة بقماش مخملي مضلع أزرق اللون. بدت العربة مريحة بما يكفي، ولكن ما من شيء استثنائي فيها، بخلاف ساعة رقمية، وعداد للسرعة يتوزعان على طرفيها.

في اللحظة التي وصل فيها العد التنازلي إلى الرقم صفر، أُغلقت الأبواب وانزلق القطار بسرعة خارجا من المحطة.

ولم يلبث القطار طويلا قبل أن يزيد من سرعته، بل واصل ذلك مثل أي محرك شديد التطور مُعد للمشاركة في سباقات للسرعة. وفي لمح البصر، أظهر عداد السرعة أنها بلغت مئة، ثم مئتين، كيلومتر في الساعة.

ومع كل عتبة قياسية يصل إليها القطار من حيث السرعة، تصبح العربة مفعمة بالحيوية بشكل أكبر. كما أن رفاقي في القطار كانوا مفعمين بالسعادة والانفعال، كأنهم أطفالٌ في سن المدرسة، على عكس توقعاتي بأن أراهم لا مبالين، ومنهمكين في التقليب في هواتفهم الذكية، دون اكتراث لما تتسم به الرحلة من طابع مثير للدهشة.

وعند وصول السرعة إلى 300 كيلومتر في الساعة، بدأ الركاب في الوقوف في الممر الفاصل بين صفي المقاعد، لالتقاط صور أمام عداد السرعة، بينما حالت النوافذ دون رؤية المناطق التي يمر فيها القطار بوضوح.

أما في داخل العربة، قد تصاعدت ضوضاءٌ مكتومة ذات تردداتٍ متعددة ومتساوية الشدة، فيما صاح زائرٌ من كاليفورنيا يُدعى تين نيوِن: "أشعر وكأنني أطير".

بعد لحظة واحدة، بلغ القطار ذروة اندفاعه بوصول سرعته إلى 431 كيلومترا في الساعة، وظل هكذا لفترةٍ كانت كافية لأن نستمتع خلالها بمشاعر الدهشة والإعجاب التي غمرتنا.
بعد ذلك، أخذت السرعة تتناقص من 300 كم/ساعة إلى 250. وحينما وصلت إلى مئة كم/ساعة، شعرت كما لو كان القطار يزحف.

أمسكت بحقيبتي استعدادا للانتقال بسرعة من هذا القطار إلى نظيره العائد إلى حيث بدأت رحلتي. عندما انفتحت الأبواب، عدوت باتجاه بوابة الخروج، ولكن بدلا من الانعطاف يسارا لأغادر المحطة، اتجهت يمينا.

وضعت بطاقة الركوب الخاصة بي في الباب الدوار، وهرعت إلى الرصيف لاستقل القطار العائد، لكنني فوجئت بأنني على متن العربة ذاتها التي غادرتها لتوي. وتبينت حينذاك أنه كان بوسعي البقاء على متن القطار، دون أن اضطر لدفع قيمة بطاقة ركوب لرحلة ذهاب وإياب. وبدا ما حدث خطأً لراكب مبتدئ للقطار المغناطيسي.

خلال رحلة العودة، لاحظت تفاصيل جديدة بشأن هذه التجربة، مثل حركة المرور التي كانت تزحف ببطء على الطريق السريع الموازي لسكة القطار، قبل أن تتلاشي عن الأنظار مُتحولة إلى صورة ضبابية، بفعل زيادة القطار لسرعته.

وبعد أربع دقائق تقريبا، هرع الكثير من الركاب للوقوف على أحد جانبي العربة. حينذاك، نقلت عينيّ من على عداد السرعة، لألحظ ما بدا وكأنه لمحة خاطفة لشيء مر خارج النافذة. كان ذلك عبارة عن قطار مغناطيسي آخر يمر بسرعة في الاتجاه المعاكس.

أبطأ القطار سرعته، وسرعان ما عدت أدراجي إلى قاعة المغادرة في المطار، عبر نفس الطريق الذي قطعته خارجا منها في وقت سابق. في هذه المرة توجهت طائعا ومخلصا لأقف في الصف أمام الضباط المسؤولين عن التفتيش والتحقق من الجوازات، وهو الصف الذي كان يتحرك ببطء مؤلم.

وعندما وصلت في نهاية المطاف إلى البوابة المُفضية للطائرة، كان نصف رفاق رحلتي تقريبا قد صعدوا على متنها بالفعل.

وجدت نفسي أقف خلف شخصيّن، تذكرت أنني رأيتهما سابقا في الصف الذي كان يقف أمام مكتب تسجيل وصول المسافرين والتحقق من بياناتهم في المطار. بدا عليهما الملل، بل بعض الكآبة، وهما مُثقلان بالأكياس التي اشترياها من السوق الحرة.

لم يكن بوسعي رؤية تفاصيل هذه المشتروات، لكن لم يكن لدي أدنى شك في أنني عائدٌ إلى وطني، وبجعبتي تذكاراتٌ أفضل من تلك التي يعودان بها.

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان