رنا السورية .. قصة الألم المكبوت تحت رماد الحرب
(بي بي سي):
عندما تعمل لسنوات طويلة في الأخبار تصبح معتاد اعتيادا مؤسفا على كل صور القتل والتشريد وعندما تعمل مثلي في برامج شؤون المرأة العربية تعتاد على سماع قصص الألم المكبوت.
وتبقى مع ذلك قصص تحرق القلب.. تلك المخبأة تحت كل رماد الحروب والقتل والتشريد، تلك الصرخات المكتومة الضائعة في ساحات ضجيج المقايضات السياسية والمساومات على حياة البشر.
تلك هي قصة "رنا" التي صار لازما علينا أن نشير إليها باسم غير اسمها حتى لا نزيد من معاناتها التي لا طاقة لها بها.
جاء صوتها هادئا لا يشي بكل الألم وليالي الصبر التي عاشتها ولا أعرف كيف احتفظت رنا بكل رباطة جأشها وهي تروي لي قصتها.
"كنت بين قريناتي الجريئة الشجاعة كنت لا أخاف .. وكنت أحب المدرسة والتعليم ورغم أن ظروفي حالت دون أتمامي التعليم الجامعي لم أر يوما أن يكون ذلك حائلا بيني وبين أن أتعلم كل يوم الجديد فالتحقت بالمعاهد الخاصة."
"كان حلمي أن أتعلم وأضيف لحياتي بعدا جديدا ونجحت في الحصول على وظيفة مدرسة في روضة".
لم تكن قصة "رنا" غريبة على مسامعي، فقد انجزت قبل سنوات تحقيقا بالتعاون مع منظمة اليونيسيف حول تعليم الفتيات جعلني على دراية أن البنت العربية مازالت في الدرج الأسفل في التعليم وأنها الأكثر عرضة للتسرب من المدرسة خاصة في المراحل الثانوية.
"كان ابن عمي" قالت رنا "وابن العم كما تعرفين مفضل عمن سواه وأصرت العائلة على أن أتزوجه. لم أجد فيه رجل أحلامي كان نقيضا لكل ما في قناعتي ونظرتي إلى الحياة لم يكن له طموح لا يحب التعليم وكان انطوائيا لا يحب الاختلاط بالناس وكان مصرا أن يعيش نمطا واحدا في حياته لا يتغير.. ظللت أقاوم كثيرا فكرة الزواج منه لكنهم تغلبوا على إرداتي وقهروني على الزواج منه".
لكن رنا كان يراودها حلم .. حلم أن تعيش وتتعلم وتعمل لكي تحفظ إنسانيتها المفقودة في البيت، وكلما كبر الحلم زاد طغيان الزوج الذي جنح إلى العنف مرارا كي يكسر إرادة الحياة داخلها.
وكان انضمامه إلى الجماعات المسلحة الأثر البالغ على حياتها صار أكثر عنفا وأصبح يهددها بالسلاح. كما روت لي.
في يوم محتوم أغلق زوج رنا عليها الأبواب ليمنعها من الذهاب إلى عملها. قطع الانترنت والهاتف وأغلق النوافذ كي لا يسمع أحد صوت استغاثتها. أصبحت مثل الفريسة التي وقعت في شباك الصياد تحاول الفرار دون فائدة.
وفي لحظة جنون وقتي سكب زوج رنا البنزين عليها وأشعل في جسدها النار. مشهدها أصابه بجنون وقتي لم يجعله يعي ما يحدث حتى أنه لم يحاول أن ينقذها.
وبعد دقائق من المعاناة كأنها الدهر نجحت رنا في أن تطفي النار المشتعلة في جسدها. ونجت من الجحيم لتكون على موعد مع رحلة أخرى من العذاب وشهور طويلة في المستشفيات في سوريا وفي تركيا لتضميد الجراح البالغة التي لحقت بجسدها.
كانت حروقا من الدرجة الرابعة لكن الألم النفسي كان أكبر بكثير. "لم أستطع أن أرى وجهي في المرآة.. لم يكن لدي القدرة على تقبل ذلك الوجه المشوه.. كانت عيوني معلقة دائما في سقف المشفى حتى لا أرى وجهي ولا أعرف جسدي".
لكن الجاني أفلت بفعلته .. ساعده على ذلك انهيار المنظومة القانونية في سوريا نتيجة الحرب واستقوائه بالجماعات المسلحة. لم يكن بوسع رنا سوي أن تحصل على الطلاق.
"الرجل السوري كان ممكن زمان يضرب زوجته بيده بعد الحرب صار يقوسها أو يقتلها بسكين. السلاح موجود ومتوافر والحرب بالعنف المتجذر فيها غذت منحى العنف عند الكثيرين والنساء هن الحلقة الأضعف في هذه المنظومة الجهنمية" تشرح لي رنا.
رنا التي قاست الكثير في حياتها الشابة من زوج عنيف ومنظومة اجتماعية ظالمة ومن ظروف حرب شرسة لديها اليوم حلم بسيط.. ألا تعيش امرأة سورية أخرى الأهوال التي عاشتها.
تحلم رنا اليوم بتأسيس مركزا لتأهيل النساء ضحايا العنف سواء كان من الزوج أو الأخ أو الابن.
"أعرف أن الكثيرات يعانين مثلي وأعرف أنهن يرغبن من الهرب من هذا الجحيم وحلمي في أن أقدم لهن فرصة في حياة أخرى. أضمد جراحهن النفسية وأطببهن وأمنحهن فرصة عمل حتى يستطعن أن يواجهن الحياة والمجتمع".
فيديو قد يعجبك: