لم يتم العثور على نتائج البحث

إعلان

لماذا يصبح الناس أقل حنكة في التجمعات؟

12:01 م الأربعاء 23 مارس 2016

غالبا ما يتبنى الناس الرؤية التي تتبناها الأكثرية

لندن (بي بي سي)
قد لا يكون مفهوم "حكمة الجماهير"، الذي يؤكد على أهمية التفكير الجماعي ودقته، صحيحاً دائما، فأحيانا يدفع هذا النمط من التفكير الناس إلى اتخاذ قرارات خاطئة أو حمقاء.

بالنسبة لغالبية الباحثين في علم النفس، قد لا تبدو غرفة بالطابق السفلي في إحدى حانات وسط لندن المكان الملائم لإجراء اختبار لآليات "صنع القرار" لدى البشر. لكنها كانت البقعة المثالية لهذا الغرض في نظر دانييل ريتشاردسون، الباحث في كلية لندن الجامعية، والذي يهتم بدراسة مدى تأثر تفكير المرء بمن حوله. فمثلا، هل يؤثر تعرفنا على الاختيارات التي اتخذها الآخرون على ما اخترناه نحن أنفسنا أم لا.

ولهذا السبب، تطلبت تجربة ريتشاردسون مكاناً يختلط فيه الناس ويتواصلون اجتماعيا بشكل طبيعي، وليس مختبرا للطب النفسي، يكونون فيه عادة منعزلين عن بعضهم البعض.

في تلك الليلة، احتشد حوالى خمسين منّا في حانة تحمل اسم "فينيكس آرتس كلوب" بمنطقة سوهو في لندن للمشاركة في التجربة، التي تجري في إطار دراسات ريتشاردسون لـ"المشاركة الجماعية".

في ظل أجواء مرحة وودية، وقف أمامنا ذاك الباحث مُشمراً أكمامه وكأنه مقدم حفلة منوعات. لكن الأمر كان يتعلق في الواقع بتجربة علمية جادة.

سجل كل منا الدخول على موقع إلكتروني صُمم على شبكة الإنترنت خصيصاً لهذه التجربة. ويتسنى لنا من خلال الموقع تحريك نقطة على أجهزة الكمبيوتر الخاصة بنا، والتي تعمل باللمس، لتتحرك تبعاً لذلك نقطة مناظرة لها، على شاشة أكبر حجما توجد في مقدمة الغرفة.

وبهذه الطريقة كانت أفكارنا الجماعية، التي نعبر عن طبيعتها عبر تحريك تلك النقط، ترتسم على الشاشة الكبيرة حتى يتسنى للكل رؤيتها (وحتى يتمكن ريتشاردسون من إجراء قياساته العلمية عليها). وعندما كان كل منّا يحرك النقطة الخاصة به، كان ما يحدث على الشاشة يشبه حركة سرب من النحل الهائج الغاضب.

وبعدما اطمأن الباحث لفهمنا لطبيعة التجربة والطريقة التي ستجري بها، ألقى علينا سؤالاً تمهيدياً تجريبياً: "هل أقدمتم يوما على الغش في أي اختبار؟". من يجيب بنعم، يحرك النقطة الخاصة به على شاشاته يمينا. أما من يختار الرد بـ"لا"، فيحركها يساراً.

وبحسب قواعد التجربة، كان كل منّا يجيب على السؤال الواحد مرتين؛ مرة على نحو مستقل لا تظهر الإجابة فيه أمام الآخرين، والأخرى بشكل جمعي وعلني تبدو نتيجته واضحة على الشاشة الكبيرة الموجودة في مقدمة الغرفة.

وتمثل الهدف من ذلك في تمكين ريتشاردسون من تحديد ما إذا كانت الإجابات العلنية والسرية ستتطابق أم سيكون بينها اختلاف؛ بعبارة أخرى هل سنكون أكثر صدقا عندما نجيب على نحو فردي وسري؟ وهل نغير الإجابة تبعا لإجابات الآخرين؟

هنا بدأت التجربة الرئيسية، التي سُئِلنا في إطارها عن آرائنا. أولى القضايا التي طرحها ريتشاردسون علينا كانت :"من الأجدر ببريطانيا ترك الاتحاد الأوروبي". في هذا الصدد، تدافعت كل النقاط تقريبا نحو اليسار باتجاه الاختيار "لا".

قضية أخرى: "ينبغي أن يحظر القانون إضرابات العاملين في قطارات الأنفاق بلندن". عندئذ، راحت النقاط تحوم باهتياج لفترة طويلة، بفعل بحثنا جميعا عن خيار نُجمع عليه.

بعد ذلك طُرحت قضية ثالثة: "يحق لمن يشتري الطعام لأصدقائه أن يأخذ نصيبا أكبر منه". قوبل هذا الطرح بشهيق غضب جماعي، أعقبته موجة اندفاع للنقاط صوب اليسار. ولكن كم منّا اعترض على الأمر نفسه في الاختيارات السرية؟

للأسف، لم تُعلن النتائج النهائية في تلك الليلة (نظرا لأنها ستشكل جزءا من رسالة لنيل درجة الدكتوراه). ولكن ريتشاردسون يرى أنها ستثبت في نهاية المطاف التأثيرات الضارة لما يُعرف بـ"المسايرة الاجتماعية"، والذي يفيد بأن القرارات التي يتخذها الأشخاص كمجموعة تميل لكونها أكثر تحيزا وأقل فطنة وذكاء، مقارنة بتلك التي يتخذها كل منهم بمفرده.

يقول الباحث في هذا الشأن: "عندما يتفاعل الناس مع بعضهم البعض ينتهي بهم المطاف بأن تتطابق آراؤهم وبأن يتخذوا قرارات أكثر سوءا".

ويضيف قائلا: "إنهم لا يتبادلون المعلومات بل يتقاسمون التوجهات المتحيزة. نحاول التعرف على أسباب حدوث ذلك، وتحديد كيفية جعل القرارات الجماعية أكثر رشدا".

وتأتي بحوث ريتشاردسون بشأن "المسايرة الاجتماعية"، عقب كمّ هائل من الدراسات المماثلة التي جرت في إطار علم النفس التجريبي وبدأت قبل أكثر من ستة عقود.

وفي خمسينيات القرن الماضي، برهن باحث في مجال علم النفس في جامعة هارفارد، يُدعى سولومون آش، أن الناس كثيرا ما يتبنون الرؤى التي تتبناها الأكثرية، حتى وإن كانت خاطئة بوضوح، بل إنهم يُقدِمون على هذا الأمر، حتى وإن كان يتطلب إنكار ما تنبئهم به حواسهم هم أنفسهم.

وخلال العقد نفسه، اكتشف الباحث ريد تودنيام من جامعة كاليفورنيا أن من شأن طلابه تقديم إجابات سخيفة ومضحكة على أسئلة بسيطة وسهلة، كأن يقولوا مثلا إن متوسط عمر المواليد الذكور يبلغ 25 عاماً، وذلك عندما يعتقدون أن الآخرين قد أجابوا على الشاكلة نفسها.

ويناقض مفهوم "مسايرة المجموعة" بشكل صارخ ما يُعرف بتأثير "حكمة الجماهير"، وهو مفهوم مفاده بأن تجميع آراء عدد كبير من الناس، يعطي إجابات أو توقعات أكثر دقة من تلك التي يبلورها كل شخص منهم على حدة.
لكن يمكن القول إن هذا الأمر يصح عندما يتخذ كل فرد من الحشد قراره بمعزل وبشكل مستقل عن الآخر. ويبلغ ذروة فعاليته عندما يتسم ذلك الحشد أو التجمع بالتنوع.

أما في المجموعات المتجانسة، التي تربط بين أفرادها هوية ما، فإن الرغبة في التوحد واتخاذ مواقف موحدة تَجُبُ كل ما عداها. لذا، عندما عرض ريتشاردسون علينا صورة لحوت من نوع "الحوت القاتل" وسألنا عن تقديرنا لوزنه، كان من الأجدر به أخذ متوسط الإجابات التي قدمها كل منّا بشكل مستقل عن الآخر وفي سرية، بدلا من متابعة الاتجاه الذي تزاحمت صوبه النقاط على الشاشة حينما انتقلنا لمرحلة الإجابة العلنية.

هذه هي النظرية التي يبحثها ريتشاردسون على أية حال، وسيستفيد وطلابه من نتائج التجربة التي جرت في تلك الليلة لاختبار صحة هذا الفرض النظري، والتعمق في دراسة مدى التغيير الذي يلحق بمفاهيمنا ومداركنا في وجود الآخرين.

وقبل نهاية التجربة، قال ريتشاردسون عن رؤيته لمواقع التواصل الاجتماعي: "نعتقد أن الإنترنت طريق سريع للمعلومات، لكنه طريق سريع للمواقف المتحيزة. موقعا تويتر وفيسبوك يشكلان طريقة رائعة لتبادل المعلومات، ولكن ربما كان ذلك لأننا نتشاطر من خلالهما تحيزاتنا وأحكامنا المسبقة. إنهما يجعلان منّا أغبياء".

هذا المحتوى من

فيديو قد يعجبك:

إعلان

إعلان