نقطة التحول في سوريا عام 2013: الكيماوي والحرب التي لم تكن
لندن – (بي بي سي):
في الحادي والعشرين من شهر أغسطس عام 2013، استفاقت سوريا على رائحة الموت، كعادتها منذ اندلاع الحراك الشعبي والحرب التي تلته. لكن الموت هذه المرة جاء بنكهة كيماوية.
خلال الأسابيع التي تلت ذلك شهد العالم زحفا دوليا وإقليميا نحو الحرب ثم تراجعا مدهشا منها إلى اتفاق روسي-أمريكي قضى بتسليم دمشق سلاحها الكيماوي.
من وجهة نظر موسكو وواشنطن بدا الاتفاق إنجازا دبلوماسيا كبيرا. لكنه ترك آثارا عميقة على الساحة المعارضة في سوريا، وقد يشكل نقطة فاصلة ليس في علاقة الفصائل المقاتلة مع الائتلاف المعارض فحسب، وإنما في مسار الحراك المناهض للحكم في سوريا.
الهجوم الكيماوي
قبل هجوم الغوطتين، كان القتل بمختلف أشكاله قد أصبح من يوميات الحياة في سوريا، حيث دخلت المأساة مرحلة التطبيع، ولم تعد تستدرج من الخارج سوى شجب كلامي بين الحين والآخر.
أما الموت السام الذي تسلل إلى الغوطتين الشرقية والغربية في ذاك اليوم فكان له وقع آخر. في غضون أيام قليلة بدا العالم وكأنه متجه إلى حرب لا يمكن احتواؤها. انتظرها البعض في المعارضة السورية بفارغ الصبر، في حين شكك البعض الآخر بالنوايا الغربية وفضل عدم تعليق الآمال عليها.
توجهت السفن الحربية إلى سواحل البحر الأبيض المتوسط ووصل الصحافيون أفواجا إلى سوريا ودول الجوار.
في لبنان ضجت بيروت وطرابلس ومدن الساحل بالتكهنات حول الطريق الذي ستسلكه صواريخ التوماهوك الأمريكية قبل أن تدلي بدلوها في دمشق.
وفي اسطنبول تحدث سياسيو الائتلاف السوري المعارض عن وعود قاطعة سمعوها من دول القرار في الغرب بأن الضربة آتية لا محال.
ثم بدأت الانقلابات
في الثلاثين من شهر اغسطس صوت مجلس العموم البريطاني في لندن ضد دعوة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون للمشاركة في ضربة عسكرية. وخرجت تصريحات من واشنطن وباريس توحي بأن الحدث لن يغير مسار الأمور، لكن سرعان ما فجر الرئيس الأمريكي باراك أوباما المفاجأة التالية، معلنا تأييده للضربة ولكن فقط بموافقة الكونجرس.
بقيت السفن الحربية في مكانها لكن دمشق تنفست الصعداء.
أما الانقلاب الأخير والأشد وقعا على المعارضة السورية فكان في التاسع من سبتمبر، حين سئل جون كيري خلال مؤتمر صحافي في لندن عما إذا كان هناك اي شيء يمكن للرئيس السوري بشار الأسد أن يقوم به لتفادي الضربة، فقال:
"بالتأكيد. يمكنه تسليم كل جزء من أسلحته الكيماوية إلى المجتمع الدولي خلال الأسبوع القادم، كل شيء بدون تأخير، ويسمح بالتحقق الكامل من ذلك. لكنه ليس على وشك أن يقوم بذلك ولا يمكن القيام به."
بدا كيري ساخرا في رده، كمن لا يتوقع أن يعاد طرح الموضوع. لكن مضت ساعات قبل أن تعلن موسكو وبعدها دمشق إمكانية تسليم السلاح الكيماوي، فكان الاتفاق الروسي-الأمريكي وسقط احتمال الضربة العسكرية.
الآن فيما توشك سوريا على وداع عام ثالث من الصراع، يبدو مسلسل الكيماوي نقطة تحول جذري. يزيد صايغ كبير الباحثين في شؤون سوريا في معهد كارنيجي قال لبي بي سي إن الموقف الأمريكي اتضح خلال أزمة الكيماوي.
"النظام السوري فهم تماما في منتصف الطريق في هذه الحادثة أن الإدارة الأمريكية لا تريد أن تقوم بعمل عسكري. وهو استفاد من ذلك ليضع نفسه في موقع الشريك المسؤول الرصين الذي سيلبي ما تحتاج إليه الأسرة الدولية حيال موضوع الأسلحة الكيماوية من جهة والآن يطرح نفسه طبعا بصفة الشريك في مقاتلة الإرهاب والتطرف والتشدد الاسلامي وما إليه."
آثار الحدث
لم تكن مصداقية المعارضة السياسية في أحسن أحوالها قبل هذه الاحداث، فقد كانت عرضة لانتقادات لاذعة بسبب انقساماتها وعدم قدرتها على إيصال المساعدات والسلاح إلى المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام.
لكن أزمتها بعد الأحداث التي تلت الهجوم الكيماوي أخذت تتعاظم بتدرج سريع.
في أواخر شهر سبتمبر أعلن أحد عشر فصيلا من ضمنهم من كان جزءا من الجيش السوري الحر انضمامه إلى جبهة موحدة وعدم اعترافه بحكومة الائتلاف.
توالت الإعلانات المشابهة إلى أن توجت في الثاني والعشرين من نوفمبر بالإعلان عن قيام ما سمي بالجبهة الإسلامية التي ضمت بعض أقوى الفصائل المقاتلة في سوريا وهي حركة أحرار الشام الإسلامية وألوية صقور الشام وكتائب أنصار الشام وجيش الإسلام ولواء التوحيد ولواء الحق.
قيام الجبهة الإسلامية شكل سابقة، فللمرة الأولى برز ائتلاف لقوى عسكرية مؤثرة تعمل على الاندماج فيما بينها وتحمل إضافة إلى عملها العسكري برنامجا سياسيا واضحا.
وقدمت الجبهة ميثاقا تأسيسيا نشرته بعد أيام من إعلان قيامها، اوضحت فيه أن هدفها بعد إسقاط النظام وتفكيك مؤسساته بناء دولة إسلامية، وشرحت فيه أسس تلك الدولة.
سرعان ما تبين أن قدرة الجبهة العسكرية تفوق بأضعاف قوة الفصائل التابعة للائتلاف. فقد استولت قوة من الجبهة على مستودع سلاح ومقر تابع للمجلس العسكري الأعلى بقيادة اللواء سليم إدريس بعد أن طلب الأخير مساعدة الجبهة في صد هجوم على المقر، وفقا لرواية الطرفين.
كان الحادث مجرد تتويج لسلسلة تطورات على الأرض اظهرت أن المجلس العسكري في تراجع.
أصبح للائتلاف منافس سياسي وللمجلس العسكري منافس عسكري، والاثنان في جسم واحد اسمه الجبهة الإسلامية.
من ناحيته بدا الحكم السوري أكثر ارتياحا مما كان، خصوصا أن لدول عظمى مصلحة في بقائه على الأقل حتى تنفيذ الاتفاق الروسي-الأمريكي. وسط هذه التحولات يبدو التغيير الذي طرأ على قوى المعارضة جذريا.
فبسقوط الرهان على مدد عسكري فاصل انتظره كثيرون من الغرب، أصبح المجال مفتوحا أمام حسابات واستراتيجيات جديدة، قد تكون الفصائل ذات العقيدة والبرنامج الإسلاميين في طليعة من يضعها ويتولاها.
فيديو قد يعجبك: