تفسير الشيخ الشعراوي لمناجاة المؤمنون لربهم وطلاباتهم منه
قال تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ}.. [آل عمران : 193].
فكأن الإنسان بقلبه وفكره قبل أن يجيء له الرسول يجب أن يتنبه إلى ما في الكون من آيات، وعليه أن يستشرف أن وراء الكون قوة، ولكن هذه القوة مبهمة في ذهنه. ما هي؟ إنه يرى الكون العجيب فيقول لنفسه: من المستحيل أن يكون هذا الكون بلا خالق. إن وراءه قوة لها حكمة ولها قدرة. هذا قصارى ما يصل إليه العقل ولكن أيستطيع العقل أن يدرك أن القوة اسمها الله؟ أيستطيع العقل أن يدرك ماذا تطلب القوة منه؟
لا. إذن لابد من رسول يبلغ عن تلك القوة. ولذلك قلنا: إن تلك هي الزلة التي وقع فيها الفلاسفة؛ لأن الفلاسفة هم الذين بحثوا وراء المادة. ونحن نعلم أن العلم ينقسم إلى قمسين، قسم مادي قائم على التجربة، وقسم ميتا فيزيقى يبحث فيما وراء المادة. وهذا العلم متاهة الفلاسفة، وهو المضلة التي لم تلتق
فيها مدرسة بمدرسة، ولا تمليذ في مدرسة مع تلميذ آخر في مدرسة.
لماذا لم يلتقوا؟ لأنهم يبحثون وراء المادة. وما وراء المادة غيب. والغيب لا يدخل المعمل. لكن المادة تدخل المعمل. والمعمل عندما يعطي نتائج تحليلات لا يجامل في هذه النتائج. فالذي يدخل التجربة العلمية في المعمل بنزاهة فالمعمل يعطيه. والذي يدخل بغير نزاهة لا تعطيه المعامل شيئا.
ولذلك نقول دائما: إننا لا نجد في العلوم المادية فارقا بين علم شيوعي روسي، وعلم أمريكي رأسمالي، فلا توجد كيمياء رأسمالية أو كيمياء شيوعية ولا توجد كهرباء روسية وأخرى أمريكية. إنها كيمياء واحدة، وكهرباء واحدة لأنها ابنة المعمل وبنت التجربة المادية.
ومن العجيب الذي لا يفطن له الخلق المغرورون من هؤلاء أننا نجد العلم المادي ابن التجربة والمعمل والمادة الصماء التي لا تجامل يحاول كل معسكر أن يسرقه من غيره، ونجد الجواسيس يسافرون من معسكر إلى معسكر ليسرقوا تصميمات الطائرات والصواريخ. وأن بعضهم يتلصص على بعض حتى يعرفوا العلم المادي.
لكن ماذا عن علم الأهواء والنظريات؟ إننا نجد أن كل طرف يقيم جدارا حتى لا يخترق علم الأهواء المجتمع.
هم يقيمون الحواجز في الأهواء، ولكن في العلم المادي يتحولون إلى لصوص. فلماذا لا يأخذون الأهواء مع العلم المادي؟ إن كل معسكر حريص على العداء مع مذاهب الغير في الحكم والاجتماع والاقتصاد. لكنهم في العلم المادي يسرق بعضهم بعضا؛ لأن المذاهب النظرية تتبع الأهواء، لكن العلم المادي- كما قلنا- يتبع الحقيقة المعملية التي لا تجامل.
إذن فساعة يفكر الإنسان بعقله لابد أن يقول: إن وراء خلق الكون قوة خارقة. وقد عرفها العربي بفطرته فقال: البعرة تدل على البعير والقدم تدل على المسير، أفلا يدل كل ذلك على اللطيف الخبير؟!!
إنه دليل فطري، يدلك على وجود القوة، لكن ما اسم هذه القوة؟ لا نعرف.
إذن فالأذن تستشرف إلى من يدلها على اسم هذه القوة. فإذا جاء واحد وقال: أنا مُرْسَلٌ من ناحية هذه القوة، وأنَّ اسمها الله، كان من المفروض أن تتهافت الناس عليه؛ لأنه سيحل لها اللغز الذي يشغلهم، لذلك فالمؤمنون يقولون: {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا}.. [آل عمران: 193].
كأن ذهن كل واحد فيهم كان مشغولا بضرورة التعرف على الخالق. وبعد ذلك. {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} .. [آل عمران: 192].
فأول حاجة فكروا فيها هي درء المفسدة؛ لأن أفاضل الناس يتهمون أنفسهم بالتقصير دائما؛ لذلك قالوا: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}.
وعندما ننظر إلى معطيات القرآن نجد أن (الذنب) شيء، و(السيئة) شيء آخر. فالذنب يحتاج إلى غفران، والسيئة تحتاج إلى تكفير، على سبيل المثال (كفارة اليمين) تكون واجبة إذا ما أقسم المؤمن يمينا وحنث فيه، وهذا التكفير هو المقابل للحنث في اليمين، أما الأشياء التي تتعلق بالمعصية بين العبد وربه فهي الذنب، والسيئة هي الأمر الذي يخالف منهج الله مع عباد الله. فحين تفعل المعصية في أمر بينك وبين الله. فأنت لم تسيء إلى الله، فمن أنت أيها الإنسان من منزلة الله؟ لكنك بالمعصية تذنب، والذنب تأتي بعده العقوبة. أما مخالفة منهج الله مع عباد الله فهي. سيئة؛ لأنك بها تكون قد أسأت.
لذلك فالمؤمنون قالوا: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا}.
ومن الذي هداهم إلى معرفة أن هناك فرقا بين الذنب والسيئة؟ وأن الذنب يحتاج إلى غفران، وأن السيئة تحتاج إلى تكفير؟ إنه الرسول صلى الله عليه وسلم حامل الرسالة من الله. وهو الذي علمنا الفرق بين الذنب والسيئة. فقد كان جالساً بين أصحابه فأخذته سِنَةٌ من النوم، ثم استيقظ فضحك.
فعن أنس رضي الله عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رضي الله عنه: ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله: أعط أخاك مظلمته. قال يا رب: لم يبق من حسناتي شيء، قال: يا رب يحمل عني من أوزاري. وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ثم قال: إن ذلك ليوم عظيم، يوم يحتاج الناس إلى أن يُتَحَمَّل عنهم من أوزارهم. فقال الله للطالب: ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا؟ لأي صِدّيقٍ هذا؟ لأي شهيدٍ هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن. قال: يا رب ومن يملك ثمنه؟ قال: أنت. قال: بماذا؟ قال: بعفوك عن أخيك. قال: يا رب قد عفوت عنه، قال: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله يُصلح بين المؤمنين يوم القيامة).
هذا هو معنى التكفير أي أن نتحمل؛ لذلك نقول في الدعاء كما عُلِّمْنَا: (اللهم ما كان لك منها فاغفره لي، وما كان لعبادك فتحمله عني). أي أن العبد يطلب أن يراضي الحق عباده من عنده، وما عنده لا ينفد أبدا.
والعباد المؤمنون يقولون: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} أي اختم لنا سبحانك هذا الختام مع الأبرار. ومن بعد ذلك يأتي قوله تعالى حكاية عنهم: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا...}.
المصدر: موقع نداء الإيمان
فيديو قد يعجبك: