في ذكرى وفاة ابن حزم الأندلسي.. رائد حقوق المرأة الذي ربته النساء
كتبت – آمال سامي:
لم يخجل ابن حزم ليعلن صراحة، كتابة لا قولًا، ويدون حقيقة أنه في بداية نشأته ربته النساء، ولم يرى حرجًا ليعلن أنه تربى وحفظ القرآن الكريم في حجورهن، فيقول في مطلع كتابه "طوق الحمامة": لقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري، لأني ربيت في حجورهن ونشأت بين أيديهن ولم أعرف غيرهن ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب وحين تفيل وجهي، وهن علمنني القرآن وروينني كثيرًا من الأشعار، ودربنني في الخط"..
وتحل اليوم، الثامن والعشرين من شعبان، ذكرى وفاته في عام 456 هـ وقد توفي عن عمر يناهز 72 عامًا، وقد نشأ ابن حزم في رغد من العيش ورفاهية ولم يكن في حاجة إلى السعي إلى طلب المال، وكان والده من كبراء أهل قرطبة، يخبرنا بذلك الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"، لكننا نعود مجددًا لنلقي الضوء على أول خطواته في الحياة، لم يكتف ابوه بالطبع ببدايات تعلمه الأولى التي ذكر لنا أنه تلقاها على يد النساء، وقد يبدو ذلك كما لو أن النساء علمنه العلم الأولي الطبيعي فقط، لكن الإمام محمد أبو زهرة، يروي لنا في كتابه "ابن حزم: حياته وعصره – آراؤه وفقهه" أن النساء أعطوه الكثير من العلم، فهم من علموه الكتاب والخط ولقنوه الشعر وعلمنه القرآن، ويقول ابو زهرة: "لم يقل إنهن حفظنه لأنه يظهر أنهن كن يحفظنه ويشرحن له بعض ما اشتمل عليه من قصص وأخبار".
لكن ذلك لم يكن كافيًا لأبيه، فكان يقوم بنفسه على تربيته ويراقب سلوكه واتجاهاته، فيفسر لنا علي بن احمد بن سعيد بن حزم في سلسلة أعلام الفقهاء وكتابه "ابن حزم الظاهري"، كيف كانت مراقبة أبيه هي سبب عفته وكمال أخلاقه على الرغم من ملازمته النساء وعيشه الرفيع وحياته المنعمة، فينقل ما قاله ابن حزم: كنت وقت تأجج نار الصبا وشرة الحداثة، وتمكن غرارة الفتوة مقصورًا محظرًا علي بين رقباء ورقائب، فلما ملكت نفسي وعقلت صحبت أبا الحسين بن علي الفارسي في مجلس أبي القاسم عبد الرحمن بن زيد الأزدي، وهو شيخه الأول.
وكان شيخه أيضًا سببًا في تقويم سلوكه حيث كان قدوة عملية في إغلاق باب الانغماس في الأهواء والشهوات لابن حزم، فيروي لنا أبو زهرة في كتابه السابق بعض سمات ذلك الشيخ، حيث كان مستقيم النفس والخلق، شغل فراغه بمجالسة العلماء، واختص من بين المشايخ بالعزوف عن النساء حتى عن الحلال منهن، فلم يكن يشغل بامرأة قط، واثار ذلك اعجاب ابن حزم في صباه، فاسماه "الشيخ الحصور" وكان ذلك سببًا في غلق باب الأهواء والشهوات في قلبه، يقول ابو زهرة: ذلك بأن القدوة الصالحة تقود النفس وتؤثر فيها أكثر مما تؤثر العظات القولية والتوجهات الكلامية.
قصة اتجاه ابن حزم للإهتمام بالفقه وعلومه
على الرغم من أن ابن حزم طلب علوم الدين في بداية حياته وسار به أبوه في طريق العلم إلا أن هناك حكاية يرويها لنا أحمد نافذ المحتسب في كتابه "شخصيات إسلامية عرفها التاريخ ولن ينساها" عن سبب ولع ابن حزم بالفقه وتعلمه أياه، حيث شهد ابن حزم ذات يوم جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه، فدخل المسجد قبل صلاة العصر والناس فيه، فجلس ولم يركع، فأشار له استاذه لأن يصلي تحية المسجد، فلم يفهم، فقال له بعض المجاورين له: أبلغت هذا السن ولا تعلم ان تحية المسجد واجبة؟! وكان عمره حينها 26 عامًا، فيقول ابن حزم" لما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة للأحياء من قرابة الميت، دخلت المسجد فبادرت بالركوع فقيل لي اجلس ليس هذا وقت صلاة، فانصرفت عن الميت وقد خزيت ولحقني ما هانت علي به نفسي وقلت للأستاذ: دلني على دار الشيخ الفقيه المشار أبي عبد الله بن دحون، فدلني، فقصده من ذلك المشهد واعلمته بما جرى فيه، وسألته الابتداء بقراءة العلم، واسترشدته". وبدأ ابن حزم بكتاب الموطأ لمالك بن انس رضي الله عنه، ثم مكث يدارس الفقه مع ذلك الفقيه وغيره لمدة ثلاثة أعوام حتى بدأ بالمناظرة.
كان ابن حزم يعتز بانه طلب العلم لا ابتغاء المال والجاه، ففي الحقيقة كان يملك كلاهما قبل طلب العلم، فيروي أنه تناظر مع الباجي شارح الموطأ فقال الباجي: أنا أعظم منك همة في طلب العلم، لأنك طلبته وأنت معان عليه، فتسهر بمشكاة الذهب، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائت السوق، فقال له ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك، لأنك إنما طلبت العلم وأنت في هذه الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حال ما تعلمه وما ذكرته، فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة.
إنصاف ابن حزم للمرأة وتفسيره لقوله تعالى: الرجال قوامون على النساء
ربما كانت نشأة ابن حزم في كنف النساء سببًا كذلك في بعض آراءه السياسية والفقهية التي جاءت أكثر إنصافًا للمرأة وإحقاقًا لحقوقها عن غيره، فكان له رأي مميز حول تولي المرأة المناصب، حيث نقل عنه الباحث التونسي حمادي زويب في مقاله "ابن حزم مجددًا" قوله: إن الإسلام لم يحظر على امرأة تولي منصب ما، حاشا الخلافة العظمى، وأكد ابن حزم أن الإسلام ساوى بين الرجل والمرأة حيث قال أن الله لم يذكر منزلة فيها فضل إلا وقرن النساء فيها مع الرجال.
كذلك في تفسيره لقوله تعالى: " الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ" بأن القوامة خاصة بوجوب نفقة المرأة على الرجال، سواء زوجها لو كانت لها زوج، أو أهلها إن لم تكن متزوجة، فيقول في المحلي: "المراد بقوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء) ما لا خلاف فيه من وجوب نفقتهن وكسوتهن عليهم، فذات الزوج على الزوج، وغير ذات الزوج إن احتاجت على أهلها فقط"، ويرد ابن حزم على من يقول أن ذلك يعني ان يتصرف الرجل في أموال زوجته، أو صداقها، أو أنها ليست حرة تمامًا في التصرف في أموالها إلا بإذن زوجها قائلًا: "فإن الله تعالى لم يخص بهذا الكلام زوجا من أب، ولا من أخ. ثم لو كان فيها نص على الأزواج دون غيرهم لما كان فيها نص، ولا دليل على أن له منعها من مالها، ولا من شيء منه، وإنما كان يكون فيه أن يقوموا بالنظر في أموالهن وهم لا يجعلون هذا للزوج أصلا بل لها عندهم أن توكل في النظر في مالها من شاءت على رغم أنف زوجها،ولا خلاف في أنها لا ينفذ عليها بيع زوجها لشيء من مالها لا ما قل، ولا ما كثر لا لنظر، ولا لغيره".
فيديو قد يعجبك: