حجة الإسلام أبوحامد الغزالي .. المُجدد الذي أحيا الله به علوم الدين
كتب – هاني ضوه :
يزخر التاريخ الإسلامي بشخصيات كثيرة كان لها أثر كبير في العلوم الإسلامية المختلفة، بل كان منهم من هو موسوعة متنقلة في كافة العلوم، ومن هؤلاء العالم الموسوعي حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي، الذي يعتبره العلماء أنه أحيا علوم الدين بكتابه الجامع "إحياء علوم الدين الذي قال عنه الإمام النووي: "كاد الإحياء أن يكون قرآنًا"، وقال عنه أبو محمد الكازروني: "لو محيت جميع العلوم لاستخرجت من الإحياء".
وقد مر الإمام أبو حامد الغزالي بمراحل كثيرة في حياته العلمية أثرت عليه وعلى نتاجه العلمي منذ نشأته، فقد ولد أبو حامد الغزالي بقرية "غزالة" القريبة من طوس من إقليم خراسان عام (450هـ/ 1058م)، وإليها نسب الغزالي.
نشأ حجة الإسلام الغزالي في بيت فقير لأب صوفي لا يملك غير حرفته في غزل الصوف، وكان محبًا للعلم والعلماء خاصة الصوفية منهم، وكانت لديه رغبة شديدة في تعليم ولديه علوم الدين، وحينما حضرته الوفاة عهد إلى صديق له متصوف برعاية ولديه، وأعطاه ما لديه من مال يسير، وأوصاه بتعليمهما وتأديبهما.
ابتدأ الإمام الغزالي طلبه للعلم في صغره، حيث أخذ الفقه في مدينته "طوس" على يد الشيخ أحمد الراذكاني، ثم رحل إلى جرجان وتلقّى العلم على يد الشيخ الإسماعيلي، ثم رحل في عام 473هـ إلى نيسابور، ولازم إِمام الحرمين أبو المعالي الجويني، وتعلّم مختلف أنواع العلوم، والفقه، مثل: فقه الخلاف، وفقه الشافعية، وأصول الفقه حتى اجتهد فيها.
استقر المقام بالغزالي في نيسابور فترة طويلة حيث تزوج وأنجب، وظل بها حتى توفي شيخه الإمام الجويني في عام (478هـ = 1085م) فغادرها وهو لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره.
وذكر الإمام تاج الدين السبكي في كتابه "طبقات الشافعية الكبرى" أنه عندما تُوفي أبو المعالي الجويني سنة 478 هـ الموافق 1085، خرج الغزالي إلى "العسكر" أي "عسكر نيسابور"، قاصداً للوزير نظام الملك (وزير الدولة السلجوقية)، وكان له مجلس يجمع العلماء، فناظر الغزالي كبار العلماء في مجلسه وغلبهم، وظهر كلامه عليهم، واعترفوا بفضله، وتلقوه بالتعظيم والتبجيل.
قرر الغزالي مغادرة بغداد، وفرّق ما كان معه من مال ولم يدخر منه إلا قدر الكفاف وقوت الأبناء. فغادرها في شهر ذي القعدة سنة 488هـ/1095م واتجه إلى الشام حيث أقام بها نحو عامين، فكان يقضي وقته معتكفا في مسجد دمشق، لا شغل له إلا العزلة والخلوة والرياضة الروحية ومجاهدة النفس والاشتغال بتزكيتها وتهذيب الأخلاق، وتصفية القلب لذكر الله تعالى.
ارتحل الإمام الغزالي إلى بيت المقدس لتبدأ مرحلة مهمة جدًا في تاريخة وفي نتاجه العلمي، فكان يدخل مسجد الصخرة كل يوم ويغلق الباب على نفسه وينصرف إلى عزلته وخلوته، وكان نتاج تلك الخلوة أن بدأ في تصنيف كتابه الأشهر "إحياء علوم الدين"، ثم ما لبث أن عاد مرة أخرى إلى دمشق ليعتكف في المنارة الغربية من الجامع الأموي، حتى إذا ما دعاه داعي الحج اتجه إلى مكة ليؤدي فريضة الحج سنة (489هـ / 1096م) ثم زار المدينة المنورة.
وعن ذلك يحكي لنا الإمام الغزالي فيقول: "ثم رحلت منها إلى بيت المقدس أدخل كل يوم الصخرة وأغلق بابها على نفسي، ثم تحركت فيَّ داعيـة فريضة الج والإستمداد من بركات مكة والمدينة وزيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من زيارة الخليل صلوات الله عليه، فسرت إلى الحجاز".
وبعد أن أدى الإمام الغزالي فريضة الحج قصد مصر وأقام بالإسكندرية مدة، ويقال إنه قصد منها الركوب في البحر إلى بلاد المغرب على عزم الإجتماع بالأمير يوسف بن تاشفين صاحب مراكش، فبينما هو كذلك بلغه نعي يوسف بن تاشفين فصرف عزمه من تلك الناحية، ثم عاد الغزالي إلى دمشق مرة أخرى حيث عكف على إنجاز وإنهاء كتاب الإحياء.
وبعد عام رحل الإمام الغزالي مرة أخرى إلى بغداد في العراق، ولكنه لم يعاود التدريس هناك، ومن بغداد انتقل إلى خراسان، وظل هناك في خلوته يواظب على حياة الزهد والتأمل وتصفية القلب لذكر الله، واستمر على تلك الحال نحو عشر سنوات، يجمع بين التمتع بالخلوة والذكر والتأمل، والأخذ بأسباب الحياة والتغلب على عوائقها، واستطاع خلالها الوصول إلى تلك الحقيقة التي راح يبحث عنها، والاهتداء إلى ذلك اليقين الذي راح يبثه في تلاميذه ومريديه: "يقين الصوفية الحقة الذي استمد دعائمه من مشكاة النبوة الصافية وجوهر الإسلام الخالص".
ومن حيث بدأ كانت النهاية .. فكانت مسقط رأسه "طوس" محطته الأخيرة، حيث لازم الغزالي بيته، وانقطع للوعظ والعبادة والتدريس، إلى أن وافته المنية، وهو في الخامسة والخمسين من عمره، وعن ذلك يقول ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان": "عاد إلى بيته وطنه، واتخذ خانقاه للصوفية ومدرسته للمشتغلين بالعلم في جواره، ووزع أوقاته على وظائف الخير من ختم القرآن ومجالسة أهل القلوب و القعود للتدريس، إلى أن انتقل على رحمة ربه".
فكانت وفاة حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي يوم الاثنين في 14 جمادى الآخرى عام 505هـ، في طابران.
وترك الغزالي للمكتبة العربية والإسلامية العديد من المؤلفات التي نقلت فكره وأرائه، ومن أهم كتبه: "إحياء علوم الدين"، "المنقذ من الضلال"، "جواهر القرآن ودرره"، "مقاصد الفلاسفة"، "تهافت الفلاسفة"، "الاقتصاد في الاعتقاد"، "المستصفى" في علم أصول الفقه، "الوسيط في المذهب"، "الوجيز في فقه الإمام الشافعي"، "التبر المسبوك في نصحية الملوك"، "أيها الولد المحب"، "كيمياء السعادة"، "المنخول في علم الأصول" وغيرها الكثير.
فيديو قد يعجبك: