بريتاني الفرنسية.. واحدة من أخطر قيعان البحار في أوروبا
د ب أ–
أطلق الرومان اسم "فينيس تيرا" أو نهاية العالم على أقصى الجزء الغربي من بريتاني، وتغمر هذه المنطقة في المساء أجواء ذهبية كأن الشمس صبغت المياه والصخور والقوارب بأشعتها الذهبية قبل غروبها، ويضم المشهد الطبيعي أيضا تحليق طيور النورس فوق هذه المنطقة مثل الطائرات الورقية، وينعم السياح بأجواء ساحرة في جنوب "فينيس تيرا" على ارتفاع حوالي 60 مترا فوق مستوى سطح البحر.
وأوضح عالم الأحياء البحرية لوك بيتون أن هذه المنطقة تعتبر واحدة من أخطر قيعان البحار في أوروبا، ويصطحب عالم الأحياء البحرية السياح لصعود 290 درجة سلم في فنارة "فار دي إكمول" على الرأس البحري الرئيسي "بنماركه"، وأكد أن هذه المنطقة شهدت غرق أعداد لا حصر لها من البحارة وتحطم الكثير من السفن في المياه الضحلة بسبب الصخور الحادة.
لون ضوء خاص
ومع قدوم الليل ببطء يشاهد السياح وميض الكثير من الإشارات الصادرة من الفنارات باللون الأبيض والأحمر والأخضر من مسافة كبيرة في كل الاتجاهات. وتعمل هذه الأوركسترا البحرية العملاقة لتأمين الملاحة البحرية في المنطقة، ومع ذلك فإن كل فنارة تعتبر بمثابة عازف منفرد، وتمتاز بمعرفها الخاص، ويتم التعرف عليها من خلال لون الضوء الخاص بها وومضاته الفردية، التي تختلف عن الفنارات الأخرى.
ويزخر الساحل الغربي لمنطقة بريتاني بثلث فنارات فرنسا، ويرجع ذلك لأحد الأقوال المأثورة لبحار عجوز، "لا يمكن لأحد أن يبحر خلال فرومفير دون خوف"، لقد كان مضيق "فرومفير" حتى 1978 يعد الحد الشمالي لبحر إيرواز، ويمتاز بمياهه الضحلة والتيارات المائية الشديدة، ويعتبر من أهم الطرق البحرية في أوروبا ومن أكثرها خطورة في نفس الوقت، ولكن مع وقوع حادث الناقلة "أموكو كاديز" وتسرب النفط في مياه البحر خلال ذلك العام تعين على ناقلات البترول وبواخر الشحن الإبحار بعيدا عن المضيق، ولا يزال الساحل الغني بالمنحدرات ينطوي على الكثير من المخاطر.
وبفضل التطور التكنولوجي الكبير فإن الفنارات تحتاج اليوم إلى عدد أقل من الأشخاص لمراقبة أنظمة التشغيل بها، ولقد تقاعد آخر حارس فنارة في بريتاني قبل عامين، ويرى بعض الأشخاص أن الفنارات لم تعد لها أهمية حاليا، على الرغم من أن الكثير من الصيادين، الذين لا يتوافر لديهم نظام ملاحة، لا يزالون يعتمدون على الفنارات المختلفة في بريتاني.
وفي مساء اليوم التالي يظهر ضباب كثيف يلف منطقة "إيل دويسان" كأنه عباءة من القطن البارد، وتعتبر هذه الجزيرة، التي تمتد على مساحة 16 كيلومترا قبالة الساحل، بمثابة أقصى طرف غربي لفرنسا، وتنتظر "أونينه مورين" السياح عند منارة "فارو دي شتيف"، وتدق مفاتيحها في الظلام لكي تفتح باب أقدم فنارة في بريتاني، والتي يعود إنشاؤها إلى آواخر القرن السابع عشر.
وعند صعود الفنارة يبدو الأنبوب الجرانيتي بأنه غير مرحب بالسياح؛ حيث تسوده أجواء رطبة للغاية، كما تحتك الأحجار الخشنة بأكمام الملابس وتشع من الجدران رطوبة باردة، وفي الطابق البيني يمكن للسياح إلقاء نظرة سريعة على المفروشات المتناثرة، والتي تعود إلى الأزمنة السابقة، ولا تعدو هذه المفروشات أكثر من سرير ومقعد وطاولة.
وعندما يصل السياح إلى أعلى الفنارة تلفح وجوههم رياح مبللة، وتتراجع نظراتهم أمام الجدار الضبابي، الذي لا يمكن اختراقه، ويدوي بوق الضباب في مكان ما، وتومض الأضواء باللون الأحمر في فنارة "فارو دي شتيف" كل بضع ثوان.
وأوضحت المرشدة السياحية "أونينه مورين" أن هذه الفنارة كانت في السابق بمثابة جنة؛ حيث كان الحراس يمكنهم العيش هنا مع عائلاتهم ومقابلة الأصدقاء في أوقات الفراغ والمشاركة في الحياة الاجتماعية، ولم تتوافر مثل هذه الامتيازات لزملائهم في البحر.
وقبل الوصول إلى الجنة كان يتعين على الحارس المرور بالجحيم، الذي يعرف بالفرنسية باسم "لإينفر"، ويطلق هذا الاسم على الفنارات، التي تضربها العواصف والواقعة على الصخور وسط مياه البحر، وفي ظل أحوال الطقس القارس كان يتعذر في بعض الأحيان تبديل المناوبات، التي تمتد لأسبوعين، وهو ما كان يضغط بشدة على الحراس من الناحية الجسدية والعقلية، ولم يأتي الخلاص إلى بعد 101 يوما في أحد فصول الشتاء، ومنذ ذلك الحين تقرر أن يشغل الفنارة رجلان على الأقل.
ومن خلال زيارة متحف جزيرة أوشا ومتحف الفنارات يشاهد السياح حوالي 800 قطعة تحكي قصة البناء الشاق لأبراج الفنارة ويعطي نظرة ثاقبة عن الحياة اليومية لحراس الفنارة، ومع شروق الشمس يظهر الضوء باللون الوردي من خلال الشجيرات وتيجان الصنوبر، مع بعض الضباب باللون الرمادي ليذكر السياح بضباب الأمس
فيديو قد يعجبك: