إعلان

نداهة المسرح تخطف "أفراح القبة"

02:07 م الثلاثاء 21 يونيو 2016

أفراح القبة

كتبت- رنا الجميعي:

مرّت خمسة عشر حلقة من مسلسل "أفراح القبة"، المأخوذة عن رواية بالاسم نفسه لنجيب محفوظ، لكن العمل الدرامي يتفرد بذاته، يأخذ من روح محفوظ ليُضيف إليها أرواحًا مخلوطة أخرى، تتشابه الأحداث أحيانًا مع الرواية، هو ما حدث بالذات في الخمس حلقات الأولى، ما حفّز العديد من مشاهدي المسلسل للبحث عن الرواية الأصلية، يقتبسون منها أقوال على لسان طارق رمضان "إياد نصار"، حليمة الكبش "صابرين"، عباس كرم يونس "محمد الشرنوبي"، كرم يونس "صبري فواز"، ثُم تُخلق شخصيات أخرى لا وجود لها في النص المحفوظي الذي كُتب في أقل من مئتي صفحة، لتُكمل من خلالها كيان أكبر وأرحب للدراما.

لكن هُناك ميزة يضطلع بها العمل الدرامي، أن نسيجه مفروش ليُطرّز عليه فنون أخرى بجانب الدراما، نرى مشاهد من أفلام مصرية قديمة، وأغاني، وروايات أخرى لمحفوظ، كل ذلك بما يخدم الحدوتة التليفزيونية، فمن مشاهد لأفلام كـ"الخيط الرفيع"، وروايات مثل "السمان والخريف"، و"الطريق"، بما يتلاقى مع حكايات أبطال العمل، ويُشبههم، نجد أن المسلسل يسرد القصة بمسحة مسرحية وأدبية.

منذ الحلقة الأولى وهُناك حالة تسعى لتأخذ من روح الأدب لتضيف للدراما التليفزيونية، رغم الحيرة التي وقع فيها العديد، وتساؤلات عن هوية كاتب السيناريو، هل هو محمد أمين راضي أم نشوى زايد، انتهاء بعدم وجود أي اسم للسيناريست بتتر المسلسل، تبدأ الحلقة الأولى عام 1977، يُعرض على سرحان الهلالي "جمال سليمان"، رئيس فرقة الهلالي المسرحية، نص بعنوان "أفراح القبة" لكاتبه "عباس يونس"، وتنطلق الأحداث من صدمة ممثلي الفرقة لمشاهدة حياتهم الشخصية على أوراق كاتب، ويخرج طارق بعدها ثائرًا من المسرح، وورائه أفيش المسرحية الذي يُعرض حينها، وهي "اللص والكلاب".

"الطريق"

تتضح نية لدى كاتب السيناريو بمزج روح محفوظ مع العمل الدرامي، فمع بداية الحلقة الثانية تدخل تحية عبده "منى زكي" إلى المسرح، الآن نحن في منتصف السبعينيات، طلب منها سرحان القدوم لتعرض بدلًا من درية "صبا مبارك"، برواية "الطريق"، تصبح بطلة لليلة واحدة، ترتدي قميص النوم الأزرق الذي ترتديه درية كل ليلة بالمسرح، تتحول تحية إلى "كريمة"-بطلة الرواية، على خشبة المسرح يوشوش لها البطل "صابر" :صحيح يخلق م الشبه أربعين، بس اللي خلقك مخلقش غيرك، لكن الجملة التي نطقها لم تكن بنص المسرحية بل من وحي خيال عباس الملقن، تنظر إليه تحية من علٍ، فيما يرتكن هو داخل "الكمبوشة" مُرتضيًا بالنظرة التي منحتها إياه.

1

"الطريق" الذي مشيت فيه تحية أودى بها إلى الموت، يتداخل مشهد وسوسة كريمة لصابر حتى يقتل الزوج، مع أحداث الحلقة الثالثة من المسلسل، التي تحكي عن حبها لطارق وتخليه عنها، ثُم حب عباس لها وزواجه منها، والحياة الزوجية التي تنتهي بميلاد طفل تحية وعباس، تُشير كريمة لصابر بالانتظار تحت سرير الزوج حتى ينام، هو ما يقوم به عباس أيضًا، يتداخل المشهدان، قتل صابر للزوج، وخنق عباس لتحية والطفل النائم بجوارها، وكأنها نهاية لمسرحية أخرى يُصفّق الجمهور مع نهاية المشهد، وتقترب الكاميرا من وجه عباس الجالس داخل "الكمبوشة"، فيما تلتمع عيناه في انتصار، ثم تنتقل الكاميرا لتقترب من جسدا تحية والطفل، اللذان ذهبا في سبات عميق للأبد.

2

 

في الحلقة الرابعة والخامسة من "أفراح القبة"، يُعاد مشهدان، كل مرة ليقول شئ آخر لم يُقال في المرة الأولى، يجلس طارق وتحية بالسينما، يُشاهدا فيلم "الخيط الرفيع"، فيه فاتن حمامة "منى" تطلب من محمود ياسين "عادل" الزواج، يقول لها إنها "خطيئتنا" فترد عليه "خطيئتنا يبقى نتجوز"، تقطع حوارهما تحية ضاحكة بكل سخرية، يأخذها طارق خارج قاعة السينما، يتمشيان سويًا، فيما تُلقي تحية بسؤال يدور ببالها :"بالذمة فيه راجل في الدنيا يستاهل اللي هي عملته"، فبطلة الفيلم ضحت بالكثير حتى يُصبح حبيبها في أعلى المناصب، فيما رفض هو الزواج منها، هو نفسه الرفض الذي قابل تحية

من طارق حينما عرضت عليه الزواج أيضًا، لكن تحية تعلمّت مما حدث لبطلة "الخيط الرفيع"، وابتعدت هي عن طارق.

 

3

في المرة الثانية التي يُعاد فيه المشهد بالحلقة الخامسة، كانت تحية أثناء الخطى مع طارق تعترف بحبها له، أما المشهد الآخر المُعاد فكان على خشبة المسرح، حينما قال صابر "اللي خلقك مخلقش غيرك"، أضيف إليه نظرة طارق من وراء الكواليس، للعلاقة التي تنمو بين تحية وعباس، كأن اللحظة الواحدة يتكاثر بداخلها آلاف التفاصيل والخلفيات.

"السمان والخريف"

في الحلقة السابعة نرى عرض مسرحي آخر بفرقة الهلالي، هو "السمان والخريف"، وإن لم يُقال اسمه تحديدًا، لكن نلتقط أسماء أبطال العمل "ريري وعيسى الدباغ"، وهم أبطال الرواية المحفوظية، يجتمع سرحان بأبطال الفرقة ليعرض عليهم النص، وبعد الاجتماع بهم يرفض طارق العمل لأن المُعالجة المسرحية له تجامل نظام ما بعد النكسة، ووراء الأربعة جدران التي يتحدثوا فيها، تتنصت سنية عبده "دينا الشربيني".

خلال الحلقة الثامنة يُقبض على طارق بسبب الوشاية به، ومن خلال تلك الأحداث نعرف أن طارق كان ثوريًا، وانهزم مع حالة القمع التي استشرت، لفظه المجتمع الناصري كما لفظ عيسى الدباغ الوَفدي في "السمان والخريف"، نرى أيضًا تحوّل طارق لشخصية الدباغ "بطل الرواية"، لدقائق تمنحها إياه تحية على خشبة المسرح، وتتحوّل هي أيضًا إلى بطلة، تقوم بدور ريري.

"هاملت"

تنتصر الحلقة العاشرة للمسرح، تعتمد على مونولجات داخلية وديالوجات بين طارق وسرحان، من خلال مسرحية "هاملت"، حيث تتداخل الأحداث بين ذاكرة طارق كطالب صغير وأحلامه حينها "بكرة لما أكبر وأبقى ممثل هبقى بطل فرقة أد الدنيا"، وهزيمته التي جللتها وفاة تحية، أحد المشاهد تنقلنا إلى طارق وأصدقائه ذاهبين إلى المسرح، يقوم طارق برشوة العاملة حتى يتمكنوا من الدخول، حيث يُمنع من هم أصغر من 18 سنة، يدخلوا إلى القاعة، حينها كان هاملت يتسائل: "وإلا من ذا الذي يحتمل سياط الزمن وسخريته، وظلم الظالمين، وذراية المتكبرين، وتباريح الحب المهين، وبطء القضاء، وصلف ذوي السلطان، وما يلقاه ذوي الفضل الصابرون على يد التافهين من مهانة"، كأنه السؤال الذي سيحمله طارق فيما بعد، فيما تكتمل مأساته مع دفن تحية، يصطحبه سرحان إلى المسرح بدلًا من البقاء منفردًا، ويعرّش فوقهما روح هاملت ليقتطعوا أقواله تعبيرًا عن أحزانهم الخاصة، فيقول سرحان: "نموت.. ننام ولا شئ أكثر، نقول أننا بل رقاد، ننهي آلام القلب وآلاف المحن العادية"، فيرد عليه طارق: "هي نهاية أشدّ ما نتمناها أن نموت أن ننام، لو نموت ربما نحلم"، لكن سرحان يقاطعه: "هنا تكمن الصعوبة لأنه في رقاد الموت أية أحلام تراودنا"، وفي جلستهما سويًا وسط الخمرة والهذيان، يُصارح طارق رفيقه "مكنتش فاهم إن لكل مسرحية بطل مش اتنين، مش كدا يا سرحان؟ واضح إننا كنا فاهمين غلط، انت اللي كنت البطل مش أنا".

4

ثم تُكمل الحلقة الحادية عشرة ما بدأته العاشرة، عن المأساة الخاصة بطارق وسرحان، فهم شقيقان من أم واحدة، تركت والد سرحان الشامي، وتزوجت من آخر مصري، وأنجبت طارق.

في بداية تلك الحلقة التي تُكمل الليلة التي قضاها طارق وسرحان داخل المسرح، بعد دفن تحية، يجلسا على البار مع العامل أحمد بُرجل "سامي مغاوري"، يهذي طارق بأحاديث عن الدخول إلى ذلك العالم :"هي البوابة دي السبب في كل حاجة، النداهة تشفطك، ترميك في دنيا مالهاش أول من آخر، في الأول تبهرك.. تسحرك، بعد كدا تقلب باب من أبواب الجحيم ذاته، تخليك تندم على كل لحظة صدقت إن انت في الجنة"، تتعدد الأصوات بالمسلسل، الذي يرتكن في الأساس على الرواية، لكنه يمتد بالعمل الأدبي ليمزج بينه وبين أخيلة كتاب آخرين، محافظين على الروح المحفوظي بذات الوقت، ولا تتمكن من النفاد من شراك الدراما المُقامة على حلقات، حيث يتضافر صناع العمل في إعداد شبكة مُحكمة، من ديكور، أزياء، موسيقى تصويرية، وتمثيل، فيما يدور كل ذلك بين أروقة مسرح الهلالي، وإن كانت تحدث بعض المشاهد خارجه، لكنهم بالآخر يصبون جميعًا داخل المسرح، منتهين إلى تفرج الشخصيات على ذواتهم أعلى خشبة المسرح، يلتقط بُرجل حديث طارق ويستكمل عليه "تقول خلاص كفاية العمر اللي راح في حيطان بتنسى مع كل صبح مين اللي مالكها، ومين اللي بناها، بس على مين، ترجع تغازلك تاني، وتحلى في عينك تاني، متتخيلش لروحك عمر براها، الحيطان دي نداهة، اللحظة اللي تدخل فيها تقضي اللي فاضل من عمرك وانت خايف تنطرد براها".

فيديو قد يعجبك: