في "جسر الجواسيس".. الأسرار والمعلومات أثمن من الإنسان
كتبت- سارة عرفة:
عندما تضيق عليك الدنيا وتحاصرك نظرات الناس الحادة والمنتقدة، لمجرد إنك صاحب مبدأ ترى من وجهة نظرك أن موقفك لا يشينه شيء، فهل ستظل ثابتا على موقفك حتى وإن كلفك هذا الموقف أمن أسرتك أو ازدراء جيرانك، أم ستسبح مع التيار وتخضع لضغوطات مجتمعك.. هذا الموقف ليس تخيليا بل مستوحى من قصة حقيقية، عانى بطلها فترة من الوقت كي يثبت وجهة نظره، ويعود لحياته الطبيعية مرة أخرى في فيلم Bridge of Spies أو جسر الجواسيس.
جايمس دانوفان "توم هانكس"، محامي أمريكي، كان جزءا من أحداث حقيقية ترجع لحقبة الحرب الباردة، كلفته حكومته للدفاع عن جاسوس روسي رودولف إبيل "مارك ريلانس"، أُلقي القبض عليه في فترة الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا، فكي يكتمل الشكل القانوني فقط يجب أن تندب الحكومة من يدافع عنه كمظهر من مظاهر الديمقراطية كما بدا ذلك جليا في الفيلم، إلا أن الأمر تحول إلى مسألة مبدأ عند المحامي، والذي أعلنت الصحافة عن قيامه بهذا الدور وتفاصيل دفاعه عن الجاسوس، مما أثار حنق الرأي العام الأمريكي لدرجة جعلت بعضهم يهاجمون منزله، وسيدة أخرى ضمن العديد من القطار، ترمقه بنظرات استهجان عندما فوجئت به يجلس في مقعد أمامها، وهي تتصفح جريدة كانت نشرت موضوعا عنه، في إشارة من المخرج ستيفن سبيلبيرج لمشاعر سلبية يكنها له الشعب الأمريكي.
أدى هانكس دوره ببراعة، حيث الثبات على موقفه ودفاعه عن مبدأ العدل، حتى وإن كان هذا معناه أن يدافع عن جاسوس يحارب وطنه، "فأي شخص يستحق الدفاع، لأن حياة أي شخص مهمة"، فكان يرى إنه في نظره ونظر الأمريكيين مجرد جاسوس خائن، أما في نظر وطنه روسيا فهو "بطل قومي"، كذلك الوضع إذا وقع أحد الأمريكان في قبضة الروس وهو يعمل لصالح وطنه، كان سيتمنى له معاملة لائقة بكونه إنسانا في المقام الأول وكونه "بطل أمريكي" في نظر أهله وحكومته.
أما مارك ريلانس الجاسوس الروسي والذي وقع اختيار المخرج له بعد مشاهدته في مسرحية "Twelfth Night" المأخوذة عن قصة المسرحي الكبير وليام شكسبير ، فاز بعدها بثالث جوائز "التوني" المسرحية، فأدائه كان عظيما، وهو يحاول أن يبدو متماسكا لا تهتز له شعره، فهو يمثل دولة عظمى لا يصح أن يبدو مرتعشا، حتى وإن كان يقف الآن في موقف ضعف وعلى بعد خطوة من الإعدام، أو السجن مدى الحياة، إلا أنه يرى نفسه بطلا خدم وطنه ولن يخونها حتى وأن كلفه ذلك حياته، لدرجة جعلت ثباته وهدوءه مثار اندهاش محاميه، الذي ظل يكرر عليه في كل موقف صعب: "ألا تشعر بالقلق"، فيرد الأخير بمنتهى الهدوء "وهل سيجدي ذلك نفعا؟".
وهكذا تستمر أحداث الفيلم طول الساعتين وثلث الساعة، في أجواء من القلق والخوف تارة والراحة والفرحة تارة أخرى، حتى تصل الأحداث لنقطة تبادل الأسرى على جسر مظلم، هو نفس الجسر الذي تمت فيه عملية المبادلة الحقيقية 1962، والمعروف حتى الآن باسم جسر الجواسيس في ألمانيا، وهنا يسلط المخرج الضوء على الفرق بين الحكومتين؛ فالأمريكية بعثت بأحد جنودها للتعرف على الطيار الأمريكي الذي كان أساس العملية، إلى جانب الطالب الأمريكي الذي جاء اعتقاله بالصدفة، أما الجاسوس الروسي والذي استقبل محاميه الأمريكي بشوق واحترام، نظر لمحاميه بحزن فمن ذا الذي سيتعرف عليه الآن في سنه المتقدم، بعد أن أفنى عمره في خدمة بلاده، مضيفا أنه لا يدري مصيره هل سيصدقونه أنه لم يفش أسرار أم ماذا؟، بعد أن استقبلته حكومته بجود وتصلف، ظهر ذلك من خلال نظرة ضابط الكي جي بي (الاستخبارات الروسية) له، فهو متشكك في أمره هل أفصح عن معلومات سرية، أم ظل صامدا أمام الضغط الأمريكي.
لفتة أخرى من الفيلم تدل على طبيعة عمل أجهزة الحكومة والاستخبارات، وهي إصرار المحامي على استرجاع طالب الرياضيات الذي كان قد اعتقل لدى الألمان، عن طريق الخطأ، ولفقوا له تهمة التجسس، لأنه يحمل الجنسية الأمريكية، ضمن صفقة التبادل. هذا الإصرار من جانب المحامي قابله لا مبالاة من قبل ضباط الاستخبارات الأمريكيين الذين كان همهم استعادة الطيار لما يحمله رأسه من معلومات في غاية السرية قد يجبره الروس على الإفصاح عنها.
ومن المشاهد المهمة في الفيلم والتي تُظهر مدى تفاني المحامي في عمله وانكاره لذاته، هو المشهد الذي يصعد فيه الطيار الأمريكي المحرر، ويجلس بجوار دانوفان ويتساءل عن صاحب هذه المهمة ومن خطط لها فيقول له أحد ضباط الاستخبارات إنه هو من قام بذلك بنبرة ضيق منه لأنه تسبب في هذا الموقف الصعب، فينظر ل دانوفان مدافعا عن نفسه ويقول: "لم أدل بأية معلومات"، فيجيبه دانوفان" لا تهتم بنظرة الناس، يكفي أنك تعرف ما قمت به، ثم يفتح الهدية التي تلقاها من موكله الجاسوس الروسي والذي كان قد رسم لوحة له من وحي ذاكرته، في إشارة مجددة من المخرج على حُسن تعامل الأمريكان مع أعدائهم، لدرجة جعلته يهديه لوحة شخصية.
وهنا ينتقل سبيلبيرج للحظة استقبال زوجة المحامي له، والتي لم تكن تعرف أي شيء عن تفاصيل هذه العملية، بل كانت تعتقد إنه ذهب في رحلة صيد، إلى أن يناديها أبناءها لمشاهدة التلفاز، الذي كان يُعلن فيه نجاح عملية تبادل الأسرى بمشاركة دانوفان، مما يثير دهشتها هي وأبناءها، فتذهب لتفقد أحوال زوجها، لتجده يغط في نوم عميق بكامل ملابسه، في إشارة من المخرج لحجم المجهود الذي بذله في هذه العملية.
وقبل إنهاء الفيلم يُلقي المخرج مجددا بالضوء على نفس السيدة التي كانت تنظر للمحامي في البداية نظرة احتقار، ليعيد نفس المشهد لكن هذه المرة وهي فخورة به وبخدماته التي قدمها للوطن، ليختم سبيلبرج فيلمه بمشهد لأطفال يتسلقون أسوار منازلهم في حالة من البهجة والفرحة، ليربط بين رؤية دانوفان لمقتل مجموعة شباب بطريقة وحشية أثناء عبورهم لجدار برلين في ألمانيا الشرقية، وصولا إلى الغربية، ويوضح الفرق بين وطن آمن ومستقر، وأخر محطم ومنقسم.
فيديو قد يعجبك: